شهداء يسوعيّون في خدمة المشرق العربي 1975-1989

يومَ الرابع عشر من شهر آذار/مارس 1976، وكانت الحرب اللبنانيّة على أشُدِّها، رافق الأب ده جرفنيون، وكيلُ ثانويّة اليسوعيّين في بلدة الجمهور قرب بيروت، أحدَ إخوته الرهبان، وهو شبه مقعد وبحاجة إلى عمليّة جراحيّةٍ يخضع لها في فرنسا، إلى مطار العاصمة، وكان معهما سائق السيّارة وممرِّض المدرسة. فأوقفهم حاجز، وأخذت عناصره السائق والممرّض اللبنانيَّين رهينتَيْن وتركت الأبوين وهما من التابعيّة الفرنسيّة، واضطرَّتهما إلى العودة أدراجهما سيرًا على الأقدام! فطلب الأب ألبان إلى رفيقه الذي لا يستطيع المشي انتظاره على قارعة الطريق، وانطلق إلى ديرٍ للراهبات يبعد نحو كيلومترين ليطلب النجدة، فيُسهِّل المرور للمسافر ويُطلق سراح الأسيرين. ولمّا عاد إلى رفيقه كان الرصاص ينهمر عليهما، فأصيب في أسفل بطنه وقضى مضرَّجًا بدمائه. واستطاع زميله أن يزحف إلى مكان آمن فأخبر الجانب الآخر، ونُقِلت الجثَّة إلى ما وراء الجبهة وأُطلق الأسيران بعد مفاوضات حثيثة.
إنّ الطريقة التي استُشهِدَ بها الأب ده جرفنيون تَختصر شخصيَّته وحياته كلّها. مات هذا الراهب كما عاش، جامعًا، على أكمل وجه، بين العمل و المحبّة .
لقد تميَّز ألبان، سليل العائلة النبيلة، بتفانيه في عمله، وإتقانه ما يقوم به، وإضفائه على سائر نشاطاته مسحةً من الذوق الرفيع والجمال.
إنتسب إلى إقليم الشرق الأدنى في رهبانيّته بُعَيد انتمائه إليها، وأُوكلت إليه مناصب تربويّة وإداريّة مهمّة، فدرَّس الأدب في الصفوف العليا بثانويّة القدّيس يوسف (ببيروت) وهو في الحادية والعشرين من عمره (!)، وصار مديرًا لتلك الثانويّة مدَّة اثنتي عشرة سنة (1934-1945)، ثمّ مديرًا لِـــــ«نادي الشبيبة الكاثوليكيّة» الذي كان يضمّ نخبة من المثقَّفين الملتزمين قضايا البلاد والمجتمع، فوكيلًا لكلّيّة الطبّ بالجامعة اليسوعيّة، ثمّ وكيلًا لكلّيّة الهندسة بالمؤسّسة نفسها، فرئيسًا لتلك الجامعة (1958-1965)... ولمّا ناهز السبعين لم يتقاعد عن العمل، فخدم في مجلس إدارة المطبعة اليسوعيّة المعروفة بـــــ«الكاثوليكيّة» والذائعة الصيت، فوكيلًا لمدرسة السيّدة في الجمهور حتّى وفاته.
تميَّز ده جرفنيون في عمله بذوقه كما ذكرنا سابقًا، وبحبّ التجدُّد والإبداع، فرمَّم الأبنية القديمة واستحدث مختبرات وأبنية جديدة، لا بل تولّى ورشة بناء كلّيّةٍ للهندسة حديثة على تلَّة خضراء في ضاحية بيروت، وعُرف إلى ذلك بوضوح الرؤيا، وقدرة فائقة على بَلْوَرة الأمور، وسرعةٍ فَطِنَةٍ في اتّخاذ القرارات وتنفيذها.
أمّا سرّ نجاحه في أعماله الجبّارة فكان محبَّته الكبيرة للناس وللبلد الذي تبنّاه، لبنان. ولئن كانت تبدو على مظهره أماراتُ البرودة لمَن يلتقيه ملاقاةً سريعة، فإنّ حقيقته كانت على خلاف ذلك؛ إذ كان رقيق القلب، يخدم بلا حساب، يثق بمعاونيه، كريمًا سخيًّا على ما يكون النبلاء. واستندت أخلاقه الرفيعة هذه إلى حياة داخليّة عميقة وصلاةٍ منتظِمة، وكشفت مدوَّناته، لمَن اطّلع عليها بعد مماته، جانبًا من السموّ الروحيّ، كان يخفيه بخفَر، وهو لا يتوافر إلّا عند القليلين.