شهداء يسوعيّون في خدمة المشرق العربي 1975-1989

الأب أَنْدرِيه ماسّ  (André Masse)  فرنسيّ

 

[عودة الى صفحة شهداء يسوعيّون في خدمة المشرق العربي 1975-1989]

الأب أَنْدرِيه ماسّ (André Masse) فرنسيّ

لمّا اندلعت الحرب اللبنانيّة في ربيع 1975، بدأ قرن الشَحْن الطائفيّ يَذُرُّ، وأخذت النفوس تتباعد، والأُناس يتقوقعون وراء حواجز مناطقهم، وخشيةُ «الآخَر» جاثِمةٌ في القلوب.

إلّا أنّ الرهبانيّة اليسوعيّة لم تقبل بهذا الواقع، هي التي أَوعز إليها مؤسّسها أن تَخْرج دومًا إلى ما وراء الحدود، وتذهب إلى «الأَبعدين» و«الغريبين»، راجيةً حيث لا رجاء عند البشر، متّكلةً على معلِّمها الناصريّ الذي قال: «هاءَنذا معكم طوال الأيّام إلى نهاية العالم» ( متّى 28: 20). وسرعان ما فتحت جامعة القدّيس يوسف فروعًا لها خارج العاصمة في مناطقَ غالبيّةُ سكّانها من غير المسيحيّين، لتسهيل التنقُّل على طلّابها من جهة، ولتأكيد رغبتها في أن يظلَّ التواصل قائمًا بين اللبنانيّين جميعًا إلى أيّ طائفة انتمَوا. ففي شهر كانون الأوّل/ديسمبر 1976، اتُّخِذ قرار تأسيس فروعٍ في طرابلس شمالًا، وصيدا جنوبًا، وزحلة في سهل البقاع شرقًا، ووُضع لكلٍّ منها نظامه الخاصّ. وكان افتتاح فرع طرابلس في 8 كانون الثاني/يناير 1977، وفرع زحلة في 24 من الشهر عينه، وفرع صيدا بعد نحو أسبوعين في 10 شباط/فبراير. وفي الخطّ نفسه رأت الرهبانيّة أن تطوِّر القسم الخاصّ بالدراسات الإسلاميّة - المسيحيّة في كلّيّة العلوم الدينيّة، وجعلته، في كانون الأوّل/ديسمبر 1980، «معهد الدراسات الإسلاميّة المسيحيّة»، وأطلقه أحد الآباء الرهبان وصديقٌ مسلم هو الدكتور هشام نشّابة. وكان هذا المعهد أوّل مؤسّسة جامعيّة للحوار الإسلاميّ المسيحيّ في البلدان العربيّة.

كان إنشاء هذه الفروع والمعاهد مغامرة، ولكنّها كانت مؤسَّسةً على صخرة الإيمان، فثبتت. وبعضها رُوِي بدم الشهادة، فنمى وأثمر، كما هو حال مركز صيدا.

في العام 1985، إذ كان قسم كبير من الجنوب اللبنانيّ يعاني الاحتلال الإسرائيليّ، عُيِّن مديرًا جديدًا لمركز صيدا الأبُ أندريه ماسّ، بُعَيد قدومه إلى لبنان من بلده فرنسا وهو في الخامسة والأربعين. وكان قد أحسّ بالرغبة في المجيء إلى الشرق الأدنى بعد أن عرفه لمّا رافق دورات تربويّة لأساتذة الرياضيّات في مدرسة اليسوعيّين الثانويّة بالقاهرة. وقد أُوكلت إليه مهمَّته الجديدة الحسّاسة لِما كان يتمتّع به من صفات علميّة وإداريّة، تجلّت لمّا درَّس في معاهد اليسوعيَّين العليا بفرنسا، ولمّا تسلَّم مدَّة ستّ سنوات إدارة مجلّة Etudes ( دراسات ) الذائعة الصيت لدى المثقَّفين الفرنسيّين. وما إن وطئت قدمه أرض لبنان حتّى أكبَّ على تعلُّم العربيّة إلى جانب أشغاله الكثيرة.

ذهب إلى صيدا رغم الأخطار، وأيّ أخطار! فلمّا انسحب الجيش الإسرائيليّ من بعض المناطق المحيطة بصيدا، وقعت النزاعات بين مختلف الفئات، وسرعان ما تطوَّرت إلى أحداث دامية مع ما يواكبها من تفجُّرٍ للحقد والعنف. ورغم تلك الظروف، راح ماسّ يعمل مرمِّمًا ما لحق من أضرار بالحجر وما أصاب النفوس والبشر، يحدوه على ذلك حبّه للمنطقة وأبنائها. وقد أسرَّ مرّةً إلى مطران صيدا المارونيّ ما تعريبه: «أحببتُ صيدا ومنطقتها. أحببتُ جنوب لبنان وطلّابه. أجل، لديهم مشاكلهم، ولكنّي أتفهَّمهم وأساعدهم قدر استطاعتي. واجبي أن أخدمهم، وآمل أن يحالفني النجاح».

لقد نجح الأب ماسّ في أمور كثيرة أنجزها بسرعة: ترميم المركز، إدخال المعلوماتيّة في مَرافقه، إغناء المكتبة، إنعاش بيت الطالبات، تأمين ملعب رياضيّ... ولكنَّ نجاحه الأكبر كان في جمع القلوب وبثّ روح المحبّة والتفاؤل، وذلك باستشهاده.

ففي ذات يوم من أيلول/سبتمبر 1987، طلب شابّان مقابلة المدير. وما إن خرج ماسّ للقائهما حتّى بادره أحدهما بعدّة طلقات ناريّة استقرَّت ثلاثٌ منها في رأسه، وهرب الجاني ورفيقه، ولم يُعرف سبب هذه الجريمة الفظيعة، ولعلّه لن يُعرَف أبدًا! ولكن ما عرفه الجميع في لبنان وصيدا خاصّة، أنّ أندره ماسّ مات شهيدًا لأنّه سفك دمه من أجل رسالته، رسالة نشر العلم إلى جانب الشهادة على التعايش والمحبّة والسلام. هذا ما شعر به جميع الذين عرفوا ماسّ وعملوا معه في صيدا، من مسلمين ومسيحيّين. وأَبلغُ دليل على ما كان له من أثرٍ في القلوب، تلك الكلمات السامية التي تلفَّظ بها عدد كبير من رجالات صيدا في إثر اغتياله، وقد دُوِّنت في كرّاس عنه مزدوج اللغة صدر بعنوان إحياءً لذكرى استشهاد الأب أندريه ماسّ اليسوعيّ (1940-1987) . ولا يسعنا في الختام إلّا أن نستشهد بثلاثة مقاطع صغيرة ممّا قيل:

جاء في الأوّل: «عرفتُ فيه المدير والزميل والأب والأخ والمعلّم. جاء إلينا بقلب مفتوح للحبّ، حبّ الجميع، وأعطانا كلّ طاقاته، أعطى جنوبنا ومركزنا الجامعيّ كلّ ما عرف من علم وتجارب. كانت جامعتنا أطلالَ جامعةٍ بعد أحداث 1985، فحوَّلها بقوّة ساعدَيْه وإيمانه الكبير إلى جنّة صغيرة، وماذا كان جوابنا؟» .

وورد في مكان آخر بقلم أحد أساتذة المركز المسلمين: «إنّ قتل إنسانٍ ما بسبب جنسيّته أو طائفته أو آرائه (...) يعبّر عن طغيان شريعة الغاب وفقدان الروح الإنسانيّة (...). عندما تتعرَّف إلى الأب ماسّ، ولو سطحيًّا، ترى فيه النموذج الإنسانيّ في العطاء الحضاريّ والفكريّ ونكران الذات. إنّ رجلًا مثله يزرع فينا صفاء الالتزام الروحيّ والعطاء والتفاني في سبيل خدمة البشريّة» .

أمّا الكلمة الأخيرة فهي ممّا كتبه معاونه الأقرب إليه، وهو أيضًا أستاذ مسلم. قال ما تعريبه: «جاء ليعلِّمنا، نحن اللبنانيّين الذين ينهش بعضنا بعضًا ونكاد لا نعرف السبب، أنّ العالم فسيح، أنّ العالم مكوّن من تنوّع، أنّ العالم مكوّن من مشاركة، أنّ الناس إخوة. وعلى الرغم من كلّ ما كان ينبض فيه من حبّ، وُجدت أيدٍ لتقتله (...). لا يكفي أن نستنكر بالكلام اغتيال الأب أندريه ماسّ. الجواب الحقّ ينبغي ترجمته أفعالًا. المطلوب أن نتابع عَمَله، ورسالته. فلينشرْ كلّ واحد منّا حوله قليلًا من الحبّ فيزداد، عسى أن لا تعود تُقْتَرَف مثلُ تلك الجرائم» .

Collège Notre-Dame de Jamhour, LIBAN
Bureau de Communication et de Publication © 1994-2008