’المزيد‘  الإغناطيّ

 

        محاضرة ألقاها الأب الرئيس الإقليميّ على خرّيجي مدرسة الجمهور في شهر  آذار 2004

'المزيد' شعار إغناطيّ مشهور

مَن مِنّا لا يعرف شعار  اليسوعيّين الشهير:  " لمجد الله الأعظم"؟  إنّ هذا الشعار لا يتعلّق  بمجد الله عامّة،  بل بالصفة التي تُميـّز الروحانيّة  الإغناطيّة خاصّة،  ألا وهي روحانيّة 'المزيد'.

إنّ لفظ 'المزيد' تعريب للمصطلح الإغناطيّ الإسبانيّ Mas   واللاتينيّ Magis،   وبالفرنسيّة Plus, davantage. والمقصود به ما هو أفضل وأعظم وأكثر وأثمن وأسمى...  ونرى أن نصّ "المبدأ والأساس" الذي يتصدّر كتاب "الرياضات الروحيّة" ينتهي بهذه الجملة المُركَّزة على 'المزيد': " نرغب ونختار ما 'يزيدنا' اهتداءً إلى الغاية التي لأجلها خُـلقنا" (عدد 23).

لنبدأ حديثنا بما نختبره كلّ يوم،  فنحاول أن نتعمّق في أبعاد 'المزيد' الأنتروبولوجيّة،  ما يُفضي بنا إلى أن نكتشف تدريجاً ما يتضمّنه 'المزيد' من معاني عميقة في الحياة الإنسانيّة بعامّة وحياةالإنسان الإغناطيّ بخاصّة.

'المزيد' الإغناطيّ تعـبير عن دينامـيـّة الحيـاة

        إذا أردنا أن نعرّف 'المزيد' أنثروبولوجيًّا،  لخّصناه في أنّه ديناميّة الحياة التي تدفع الإنسان دائماً إلى ابتغاء 'المزيد' من النموّ والتجدّد،  ومن الجهد والتحمّل والتحدّي،  ومن السعي وراء اللانهائيّ،  كما سنراه لاحقاً.

        قلنا " ديناميّة الحياة" بمعنى أنّ الإنسانَ تـَسكـُنُه قوّة ٌ باطنيّة روحيّة تحثّه على تخطّي ذاته وتخطّي رغباته ومُعاملاته وأعماله...،  وعلى الاتّجاه نحوالأفضل والأعظم والأسمى والأثمن. فعندما نعود إلى خبرتنا الإنسانيّة اليوميّة،  نختبر كلّنا ظمأَنا إلى المال، وإلى أن نحصل دومًا على أكثر،  وإلى أن  يجلب المليون مليونـًا آخر؛  ونختبر أيضًا رغبتنا في نجاح أوسع عائليًّا واجتماعيًّا ومهنيًّا وسياسيًّا... إنّما هذه الرغبة أو هذا الظمأ أو هذا الميل يميـِّز الكائن البشريّ،  فيميِّزهُ عن الحيوان حيث إنّ غريزته لا تنفكّ تتكرّر فلا تتبدّل عبر العصور،  يُشبعها الحيوان في اللحظة الحاضرة،  بلا أيّ تطوّر.

هل تساءلنا يوماً من الأيّام إلى أيّّ شيء تعود هذه الرغبة وهذا العطش وهذا التوق وهذا التجاوزالمتواصل؟  تكمن الإجابة في أنّ ذلك يعود إلى الديناميّة العميقة التي تسكن في قلب الإنسان.  ولقد انطلق القدّيس إغناطيوس مِثلنا من خبرته الإنسانيّة وحوّل توْقاً كمّيـًّا مُتكاثراً إلى توق نوعيّ مُتزايد؛  فضلاً عن أنّه جعله اجتماعيًّا وإنسانيًّا،  كما أنّه روْحنه في الشعار اليسوعيّ الشهير،  حيث إنّه لا يستهدف تمجيد الله فحسب،  بل 'المزيد' من التمجيد تمجيداً دائمـًا أسمى وأفضل وأثمن. ومن ثمّ،  فلا نستهدف خدمة إخوتنا البشر فحسب،  بل 'المزيد' من الخدمة خدمة دوماً أوفر أيضاً.  وفي نهاية المطاف،  فإنَّ خَـيارات الإنسان الإغناطيّ الحقيقيّة لا  تختصّ باختيار الخير أو الشرّ،  بقدر ما تتعلّق بالاختيار بين الخير والأفضل؛  وبهذا المعنى،  فإنّ القول المأثور"الأفضل هو عدوّ الخير" يتنافى تماماً والروحانيّة الإغناطيّة،  ذلك بأنّ السِّمة التي تميّزها هي بالذات الأفضل والأعظم و'المزيد'.  ولنركّز في تحليلنا لذلك 'المزيد' على ثلاث نقاط.

1- 'المزيد' الإغناطيّ أو الدافع إلى النموّ والتجدّد

        تتّسم الحياة الطبيعيّة والبيولوجيّة، والدنيويّة والروحيّة...  بالنموّ، لا بالجمود أو التصلّب أو التحجّر.  فحيث لا يوجد نموّ ولا تطوّر ولا حياة، هناك الموت والفناء،  ذلك بأنّ خليقة الله كلّها تنمو وتكبر: "اِنموا وأكثِروا واملأوا..." ( تك 1/28).  تلك سُنّةُ الحياة.  والنموّ يُحدث التجدّد والتبدّل والتحوّل،  بل والتجلّي بحسب اللاهوت الشرقيّ مُنطلقـًا من مشهد الإنجيل المعروف.  ذلك أنّه بوسع الإنسان أن يُعيد النظر في ما هو عليه أو في ما يقوم به،  وأن يختار خيارات جديدة ويتخّذ مواقف مُغايرة وينفتح على آفاق مختلفة...،  وذلك كلّه إلى ما لا نهاية له،  لأنّ دينامية الحياة تحثّه على ذلك،  ولا سيّما على ما يقاوم الجمود والخمول،  والركود والفتور، وعلى ما يناهض التعوّد والرتابة،  والتخاذل والتهاون،  وعلى عدم الاكتفاء بالحلول النصفيّة... وبهذا المعنى،  يورد سفر الرؤيا الذي يختم الكتاب المقدّس بقول الله هذا:  "ها إنّي أجعل كلّ شيء جديداً " ( رؤ 21/5).  الحقّ يقال بأنّ الله ذاته يخلق خليقته دوماً بلا انقطاع،  ويجدّد الإنسان كلّ يوم بدون توقف،  ويُبدع كلّ شيء جديداً بوجه متواصل،  ما يُجنّبنا النظرة اليونانيّة وهي تُصوّر لنا الله غير مُتحرّك،  ثابت،  متساوٍ مع نفسه،  غير مُتأثِّر.  وعليه،  فإنّ الإنسان الذي خُلق على صورة الله مدعوّ إلى أن يكون فعلا ً على مثاله،  " فيتجدّد يومًا بعد يوم" كما قال القدّيس بولس في كلامه على "الإنسان الباطن" (2 قور 4/16).

إنّ النموّ والتجدّد مُرادفان لانطلاقة الحياة البشريّة والحريّة الإنسانيّة والحبّ البشريّ؛  وفي روحانيّة إغناطيوس،  هما سِمتان لعلاقة الإنسان بالله،  ولعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان وبالخليقة بوجه عامّ.  إنّ الإنسان الإغناطي ينمو ويتجدّد بدون أن يتوقّف.   يا لَسِرّ النموّ والتجدّد!

        وفي سبيل تحقيق النموّ والتجدّد،  بمقدور الإنسان أن يُجنّد جميع طاقاته وقدراته ويسخّر جميع مواهبه ومَلَكاته،  لينطلق انطلاقة الحرّيّة بلا حدود،  ويحبّ محبّة مجّانيّة بلا شروط، ويخدم خدمة سخيّة بلا حساب.

2- 'المزيد' الإغناطيّ وديناميّة الجهد والتحمُّل والتحدّي

لقد أوضحنا أبعاداً واسعة ولا محدودة،  وهذا بالذات ما يميّز خصوصيّة 'المزيد'،  ولكنّ هذا التحليق يُترجَم،  في واقع الحياة،  بتحدّي الصعاب بعزيمة ومُثابرة،  وبصبر وطول أناة،  وبالثبات والصلابة في الصعوبات،  وبالمقاومة والنضال ضدّ قوى الشرّ في مجتمعاتنا البشريّة.  إنّ هذه الديناميّة كامنة في عمق أعماق الإنسان،  ذلك بأنّ قلب الإنسان مطبوع بها وبما تتطلّبه من التحدّي والتحمّل والجهد؛ إنّ 'المزيد' لا يدع أيّ مجال من مجالات الحياة لأنصاف الحلول أو للمعهلشّّيّة أو للمساومات،  بل إنّه يذهب إلى أقصى الحدود،  مُقاوَمةً منه لقضايا الظلم، ودفاعاً منه عن قضايا الحقّ.  ومن ثَمّ، فإنّ 'المزيد' لا يُناسب الأشخاص المحدودين،  ولا الضعفاء أو الخائفين،  بل هو يُخاطب العظماء  والأقوياء والشجعان.

ولكن حذارِ من الوقوع في كبرياء الصفوة أو قوّة الإرادة،  لأنّ مِثالنا الأعظم هو المسيح،  منبع شجاعتنا وقوّتنا وامتيازنا،  وقد احتمل جميع المُضايقات والمُعاكسات والاضطهادات،  وقاوم طيلة حياته قوى الشرّ الكامنة في قلب كلّ إنسان وفي صميم كلّ مجتمع،  أو - بعبارة البابا يوحنّا بولس الثاني - " هياكلَ الخطيئة" المسيطرة على المجتمعات البشريّة.  كما أنه تحمّل، بصبر وطول أناة،  مشقّاتِ الحياة وآلامَ الرسالة وقساوة قلب الإنسان وغلاظة رقبته،  ما أفضى به في نهاية المطاف إلى انتصار قوى الخيرعلى قوى الشرّ.

        وقد استقى ذلك من دافع حبّه للبشر ورغبَته في خلاصهم وإشراكهم في هذا الحبّ؛  وكما قال بولس الرسول: " محبة المسيح تأخذ بمجامع قلوبنا" (2 قور5/14).  إنّ الإنسان الإغناطيّ يستقي من يسوع المسيح هذه الديناميّة أمام المشقّات التي تعترض حياة كلّ إنسان، سواء في عائلته أو عمله،  وفي حياة الخاصّة أو العامّة،  ذلك بأنّه مدعوّ إلى مُواجهتها،  ببصيرة واعية، وبشجاعة وحزم.

3- 'المزيد' الأغناطيّ أو السعي وراء اللانهائيّ   

إنّ ديناميّة الحياة، المُتّسمة بـ'المزيد'، لا تتوقّف عند مقاومة قوى الشرّ أو الخطيئة أو الألم، بل إنّها تدفع الإنسان الإغناطيّ إلى تحليق ٍ جديد،  إلى توجّه مُتواصل نحو ما هو غير محدود ومطلق.  فقد يبحث الإنسان عن بدائل مُزيّفة توحي له بأنّه يقترب من اللانهائي - كالامتلاك والفخر والكبرياء والجنس وغيرها من الغرائز... -  باحثاً فعلاً عن 'الأكثر'،  غير أنّ ذلك 'الأكثر' هو كمّيّ لا نوعـيّ،  فيجد نفسَه،  في نهاية المطاف،  منغلقاً على ذاته،  أسيرَ زيفِه وخيبةِ أملِهِ.  

        أمّا اللانهائيّ الحقيقيّ والمُطلق الحقّ، فإنّما هو الله،   كما يؤكّده "المبدأ والأساس" الإغناطيّ،  وقد قال القدّيس أوغسطينس،  في القرن الخامس: " صنَعْتَنا لكَ،  يا ربّ، وقلبُنا لن يرتاح إلاّ فيك".  

والله المُطلق يدفع الإنسان إلى أخيه الإنسان،  إلى الشركة الأخويّة،  إلى شركة لا تعرف الحدود الجغرافيّة ولا العرقيّة ولا الطبقيّة ولا الدينيّة...،  ذلك بأنّ "الأخ البكر" ( روم 8/29)  يوسّع قلبَ الإنسان اتّساع حبّ الله لجميع البشر. هذا وإنّنا نقرأ في ختام "الرياضات الروحيّة" ذلك القول المشهور الذي يحرّك حياة كلّ إنسان إغناطيّ: "حبُّ عزّته الإلهيّة وخدمتُها في كلّ شيء" (عدد 233).  إنّ حبّ الإنسانِ اللهَ  يتجلّى ويتجسّد في حبّه وخدمته  إخوتَه البشر.  ولهذا السبب، فإنّ القدّيس إغناطيوس يجمع دائماً بين 'المزيد' فيتمجيدالله و'المزيد' في خدمة الإنسان.  إنّهما وجهان لا ينفصلان من ديناميّة 'المزيد' كقوّة دافعة حقّاً،  بلا كـَلـَل ولا مـَلـَل،  وبدون توقّف، بما أنّ غاية الإنسان المطلقة هي اللامتناهي الذي لا حدود له، أي الله.  فمصدر'المزيد' هو الله الذي يدافع إلى ما هو أفضل وأعظم وأسمى وأثمن...؛ وتتجسّد تلك القوّة الدافعة في خدمة الإنسان بالنمط عينه.

على سبيل الخاتمة

أختم موضوعي بتمرين ترجمة صغير:  لقد بدأتُ محاضرتي بالاستشهاد بشعار اليسوعيّين  Ad Majorem Dei Gloriam الذي يـُتـَرجَم اعتياديًّا: " لمجد الله الأعظم".  في الواقع، إنّ ترجمة لفظ Majorem الصائبة ليست هكذا، بل " لتمجيد الله تعظيماً دائماً أعظم". تلك هي الرغبة والقناعة والعزيمة لتمجيد الله تمجيدًا لا يتوقّف أبداً،  بل يستمرّ دائماً،  في ديناميّة متجدّدة دومـًا،  في أصغرالأعمال وفي أعظمها،  وفي جميع المشاعر والأفكار والخيارات البشرية،  وفي كلّ ما هو مُتناهٍ  وما هو لا مُتناه،  وفي كلّ ما هو مَخفيّ وما هو ظاهر،  في كلّ ما هو فرديّ وما هواجتماعيّ وسياسيّ...،  أو بقصير العبارة الإغناطيّة المألوفة:  " في كلّ شيء".

هذا ويمكن تلخيص علاقة الإنسان الإغناطيّ بالله في ذلك القول المألوف:  "الله في كلّ شيء،  وكلّ شيء في الله".  إنّها النَّغمة الإغناطيّة الصرف،  وهي نمط حياة وكيفيّة تصرُّف ونَهْج وجوديّ،  تُنعشُها دوماً ديناميّةُ 'المزيد'.  ففي حياتنا البشريّة التي تتميـّز بلحظاتها المُتشابهة وبأحداثها المُتكرّرة وبأمورها المُتراكمة،  كما وبالكآبة التي تجتاح حياة كلّ واحد منّا وجميع مجتمعاتنا البشريّة،  لا يبرح 'المزيد' الإغناطيّ يذكـِّرنا بديناميّته المذُهِلة:  إنّما الحياة أبعد من ذاتها،  وتـَتـَجاوز دومًا ذاتـَها،  وتـفتحـُنا بلا نهاية على آفاق جديدة مُتجدّدة.

فاضل سيداروس اليسوعيّ

Collège Notre-Dame de Jamhour, LIBAN
Bureau de Communication et de Publication © 1994-2008