أيّها اليسوعيّون، ما هو سرُّكم؟

 

تحتفل الرهبانيّة اليسوعيّة في السنة  2006بمرور 450 عاماً على وفاة القدّيس إغناطيوس دي لويولا،  مؤسِّسها (1556)، و500 عام على ميلاد القدّيس فرنسيس كسَفاريوس، شفيع الإرساليّات، والطوباويّ بطرس فافِر، شفيع الإرشادات والأحاديث الروحيّة (1506)، وهما رفيقا إغناطيوس الأوّليْن. وإنّها لفرصة سانحة لنتساءل: ما هو سرّ اليسوعيّين المُتعلّق بحياتهم الشخصيّة، وهو منبعِ أعمالهم وخدماتهم ومشاريعهم، أيًّا كانت نوعيّتها؟

كثيراً ما يُعاصر الناس اليسوعيّين ويختلطون بهم ويتعاملون معهم، أحياناً طوال سنوات عديدة، من دون أن يكتشفوا معنى حياتهم ودافعها الحقيقيّ، لا سيّما أنّه ليس من عادة اليسوعيّين أن يأتوا على ذكر حياتهم الشخصيّة، بل هم يُفضّلون العمل والخدمة والفعّاليّة على الكلام. والحال أنّ أصل ما يقومون به يظلّ أمراً مجهولاً مخفيًّا لدى الكثيرين، وهوعلاقتهم الشخصيّة بالله، أكاد أقول حياتهم التصوّفيّة؛  ذلك هو سرّهم الحقيقيّ ومصدر عملهم ومنبع خِدمتهم. إنّهم، قبل كلّ شيء، رجال الله، ومُكرَّسون له تعالى، ومِن ثَمّ مُكرَّسون لخدمة البشر. وإذا صحّ أنّهم يقومون بمشاريع عملاقة، ويخدمون على حدّ سواء الرجال والنساء، والشُبّان والشابّات، والشيوخ والأطفال، فلأنّ محبّتهم اللهَ تدفعهم إلى محبّة البشر، وخدمتَهم اللّهَ تتحقّق في خدمة البشر.

يحثّهم القدّيس إغناطيوس دي لويولا على أن يلتمسوا من الله نعمة عظيمة، هي "أن يُحبّوا جلاله الإلهيّ ويخدموه في كلّ شىء"؛ ذلك أساس حياتهم وعملهم. وتُفيد عبارة "كلّ شيء" بترجمة الروحانيّات -من محبّة الله وخدمته تعالى- بالزمنيّات -من محبّة البشر وخدمتهم-. ذلك سرُّ عملهم، ما يدفعهم، في صميم كيانهم، إلى أن يحبّوا البشر ويكونوا خُدّامهم، ولا سيّما خُدّام كلّ إنسان يضعه الله في طريقهم.

بالحقيقة، ليست الخدمة عارًا، وهي لا تحطُّ من كرامة الإنسان، ولا تُقلِّل من شأنه، ولا تعوق من مكانته الاجتماعيّة،  وذلك على خلاف ما يتصوّره مُعظم  الناس الساعين إلى النجاح والشهرة، وحُسن السُّمعة والتقدير. إنّ اليسوعيّين يخدمون الناس لأنّهم يخدمون الله أصلاً. والحقُّ يُقال إنّهم، في نظر الناس الذين يعرفونهم من الخارج، يُعَدّون رجالاً أكفاء، لامِعين، بارعين، مُتفانين في عملهم... ولكن نادراً ما ينفذون إلى أعماق كيانهم ويرون فيهم أشخاصاً قد كرّسوا حياتهم لخدمة البشر، بدافع محبّتهم اللهَ وخدمتهم تعالى.

ليس هذا الكلام على سبيل التملّق أو التباهي. كلاّ،  ذلك  بأنّ اليسوعيّين يشعرون بتقصيرهم وضعفهم، أكثر ممّا يشعرون بنجاحهم وفلاحهم، ما لا يمنعهم من أن يرجوا أن يكون مَن يخدمونهم هم أيضًا في خدمة الآخرين، بكفاية وامتياز، كلٌّ منهم في محيطه العائليّ والمِهنيّ والعلائقيّ والمدنيّ والوطنيّ. وتلك الأُمنية التي تعمر قلبهم، يعبّرون عنها بشهادة حياتهم، أكثر منه بحُجّة أقوالهم وأعمالهم. ألم يقُل الأديب أنْدريه جِيدْ: "إنّ أفضل التعليم بالمَثَل"؟ وألم يُقرّ البابا بولس السادس: "إنّنا نحتاج اليوم إلى شهود أكثر منه إلى مُعلّمين"؟

ومن هذا المُنطلق، يجرؤ اليسوعيّون أن يوجِّهوا إلى مَن يخدمونهم هذه الأسئلة الثاقبة: هل نحن في نظركم أوّلاً شهود لِلّه، وعلى محبّته تعالى كلَّ إنسان، إذ إنّ كلّ شخص جدير بالاحترام والثقة والحبّ وبذل الذات في سبيله، وذلك أيًّا كان دينه ومُعتقده، ووطنه وبيئته الاجتماعيّة، وكفاءاته وصِفاته الشخصيّة؟ هل تأثّّرتم بالرسالة التي ربَّما لم نُعبّر عنها بأقوالنا، بل بحياتنا أوّلاً، ومن ثَمّ بعملنا من أجلكم؟ هل أيقنتم أنّ أعمق أمانينا أن تعملوا مِثلنا، لا بل بوجه أفضل، فتتفوّقون علينا شهادةً وأعمالاً؟ هل أدركتم أنّ ما يهمّنا في نهاية المطاف، إذ نبذل أنفسنا في سبيلكم وفي خدمتكم، هو أن تفعلوا أنتم أيضًا كذلك، بل وأن تتفوَّقوا علينا غَيرةً وامتيازًا؟

إن وجدتْ تلك الأسئلة صدى في قلوبكم، امتلأت قلوبنا فرحاً وامتناناً، ومن ثّمّ اكتملت رسالتنا، فنرفع إلى الله آيات الشكر والعرفان لأنّه استخدمنا، بالرغم من ضعفنا ونقائصنا،  في سبيل تمجيده تعالى ومن أجل بُنيانكم.

تلك بعض الخواطر التي تجول في قلوبنا وأفكارنا لمناسبة السنة اليوبيليّة التي نحن بصددها.

وستورد المجلّة على صفحاتها لمحات عن الروحانيّة الإغناطيّة في مجال التربية الشاملة والتاريخ المحلّيّ. 

الأب فاضل سيداروس اليسوعيّ

Collège Notre-Dame de Jamhour, LIBAN
Bureau de Communication et de Publication © 1994-2008