"أصدقاء في الرب". إنّه ليس موضوعاً من بين مواضيع أخرى للقاء يسوعيّين. فهو يمسّ كلّ حياتنا البشريّة، ويمسّ تاريخنا الشخصي كما يمسّ ما نعيشه أو نرغب عيشه في الحاضر. إنّه أيضاً رهان حياتنا نحن رفاق يسوع، وحياة الرهبنة والشهادة للمسيح الّتي ندليها من خلال ما نُظهِرهُ ونُسمِعهُ عن اتّحادنا بعضنا ببعض: اتّحاد القلوب.
أريد أن أقول بعض الكلمات الآن، وأفضّل ألاّ أقولها في عظة، ولا في مداخلة ختاميّة، لأنّي أريد أن أترك الكلمة الأخيرة في لقائنا لكلمة الله الّتي سنصلّيها، ولروح الله الّذي يقودنا، كلّ واحدٍ منّ جهته ومعاً، كي نرغب أن نعيش أكثر ما فهمنا أنّه واقع لن ينتهي على الدوام. لا ما نظنّ أنّنا نعرفه ونملكه، بل ما نغامر في سبيله، ملبّين بطريقةٍ جديدة على الدوام دعوة المسيح.
1- العيش "كأصدقاء في الرب"، يتطلّب موقفاً عقليّاً وقلبيّاً. والخطر الّذي نتعرّض له دوماً حين نتكلّم على الصداقة هو المثاليّة والذروة الّتي ننتظرها أو نتمنّاها أو نرجوها في علاقتنا بعضنا مع بعض. لكنّكم تتذكّرون "الجانب الواقعيّ" لإغناطيوس. هذه الواقعيّة الّتي جعلته لا يهمل أيٍّ من التفاصيل، وحِسّه للواقع وللتجسّد الّذي قاده إلى أن يفتّش عن أكثر ما يمكن تمنّيه وأكثر ما هو شامل في ما هو شديد الواقعيّة وبدائيّ. من المهم ألاّ يغيب عن عيوننا ما هو بدائيّ جدّاً في اختبارنا الإنسانيّ والمسيحيّ، حين نتكلّم على رغبتنا بأن نصبح أكثر "أصدقاء في الرب". من المهم أوّلاً أن نهتمّ بأرض الواقع، بواقعنا البشريّ. لأنّ على الصداقة أن ترسل فيه جذورها وتنمو.
- بدائيّة هي العلاقة مع الذات، مع تاريخنا، مع شخصنا، الّتي تقودنا إلى الإقرار بما نحن عليه، وإلى قبول ما نحن عليه، وإلى الفرح بأنّنا هكذا. فهناك نوع من القبول بأن نكون هكذا، ألاّ نكون إلاّ هكذا، وهذا القبول هو طريقة لتلقّي ذواتنا من الله ومن تاريخنا ومن الآخرين، ويقودنا إلى أن نعيش علاقتنا مع الآخر في اعتدال شديد. فمن الصداقة مع الذات ما يفتح على الصداقة مع الآخرين.
- بدائيّ ما يكوّن الحياة البشريّة مع الآخرين: لا يحقّ لنا أن نقوم بأقلّ ما تتطلّبه حياة اجتماعيّة بشريّة في مجال احترام بعضنا بعضاً، وفي مجال العدالة بيننا. فالكلام على العدالة يعني الرغبة في أن نردّ لكلّ واحدٍ ما يستحقّه، والانشغال بالآخر الّذي هو طريقة في عيش "عدم تجنّب الآخر". ومن خلال كلّ هذا، أن نعرف الامتناع عن الكلمة الّتي تجرح، والإدانة الّتي تصنِّف، وكلّ ما يمكنه، بطريقةٍ أو بأخرى، أن يخدش أو يكسر أو يحطِّم ... أو تحميل الآخرين الحمل الّذي يجب المشاركة في حَمله.
- بدائيّ هو عيش تقدير الآخر. أي أن تكون لدينا النظرة الّتي تنطلق من موقف فكر وقلب يرى ويقرّ ويُعجَب بكيان الآخر. نظرة تكتشف أنّ ما أعطي للآخر لم يُنـزع منّا أو يُمنَع عنّا. إنّه عكس موقف قايِن تجاه هابيل. نظرة مستعدّة للشكر على ما كُشِفَ لها من عظمةِ كائنٍ ومن طرق الربّ له.
- بدائيّ أن نعيش المحبّة تجاه جميع رفاقنا. فنحن لا نستطيع، باسم الصداقة المرغوبة أو المعاشة مع بعضهم، أن نعفي أنفسنا من أبسط درجات المحبّة، أكثرها اعتياديّةً وأكثرها يوميّةً تجاه هذا القريب الأقرب، ألا وهو كلّ واحدٍ من رفاقنا. فحين نلاحظ في بعض الأحيان مَن هم في منتهى المحبّةً تجاه الآخرين، وفي منتهى القسوة تجاه خاصّتهم، يبدو لنا الأمر غريباً. فرفاقنا هم أوّل مكانٍ لممارسة شريعة المحبّة الّتي هي شريعة المسيح. يقول لنا بعضهم أحياناً: "أنتم قُساة فيما بينكم". نحن إذاً بعيدين عن "انظروا كم يحبّون بعضهم بعضاً"، الّتي لا شكّ أنّهم يريدون أن يقولوها.
2- ثلاثة أبعادٍ لـ "صداقتنا في الربّ" تبدو لي مهمّة لأشير إليها.
2-1 إنّها صداقة مرجعيّتها المسيح. وبالتالي، فهي نوعاً ما صداقة بديهيّة. اسمحوا لي أن أسرد ذكرى تعود إلى زمنٍ بعيدٍ من حياتي اليسوعيّة. كنتُ أكلّم ذات يوم يسوعيّاً أكبر منّي سنّاً كصديق وقلتُ له، وكأنّني أريد أن أضع ختماً على ما يتطلّبه سرٌّ من كتمان: "أرجو أن يظلّ هذا الحديث بيننا نحن الاثنين". فأجابني: "أجل يا فرانسوا كزافييه، سيظلّ هذا الأمر بيننا نحن الثلاثة: أنت والربّ وأنا". في ذلك اليوم، فهمتُ أنّ هناك دائماً ثالثاً بين يسوعيَّين: إنّه الرب. فهو الّذي نتمنّى اتّباعه شخصيّاً ومع آخرين حين نطلب أن نُقبَلَ تحت راية المسيح. إنّه هو الّذي يهبنا لبعضنا بعضاً. وبدونه، ربّما ما التقينا ولا تعارفنا. هو الّذي يوحّدنا ويشتّتنا لأنّه هو الّذي دعانا وجمعنا. وأوّل واجب علينا تجاه بعضنا بعضاً هو ألاّ نحطّم ما فعله الله بل أن نقوّيه ونصونه. هذا يعني أنّ حيويّة العلاقة بيننا واتّزان العلاقة مع كلّ واحد - علاقة يشارك فيها القلب والعقل - ترتبط بعلاقتنا الشخصيّة مع الرب، وبطبيعة حياتنا الداخليّة الشخصيّة.
2-2 إنّ لصداقتنا في الربّ بعداً وطبيعةً رسوليّة. لا شكّ أنّها الصداقة كما تجعلنا الخبرة والأفكار البشريّة نفهمها ونعيشها: إحدى أثمن الهبات البشريّة. وهذه الهبة تساعدنا على عيش المناجاة. كتب القدّيس إغناطيوس في التمارين الروحيّة: "المناجاة هي التكلّم تماماً كما يكلّم الصديق صديقه". فكيف نتكلّم مع الربّ كصديق إذا كنّا لا نتكلّم أبداً مع أحدٍ كصديق؟ ولهذه الصداقة صفة شموليّة منذ نشأتها. إنّها منفتحة على الجميع، حتّى في الصداقات الحميمة بين رفيقين. لأنّها صداقة رفاق يفتّشون عمّا يريده الله منهم ويميّزوا إرادته. رفاق ينظرون إلى العالم ويتأمّلوه في تنوّعه وجماله ورهاناته ويعتبرونه كرماً يعملون فيه معاً. رفاق يحتاجون إلى عينيّ الآخر وأذنيه ليعيشوا نعمة البحث عن الله في كلّ شيء.
الصداقة بين الرفاق، كما هي بين إغناطيوس وفرنسيس كسفاريوس، مصنوعة من كلّ التزامات الشخصيّتين، من بحثهما عن كيف يخدمون بالمزيد الربَّ ويساعدون النفوس، وبالتالي، يسخّرون صداقتهم للرسالة بطريقة جذريّة. فالرسالة الّتي تفرّقنا بالضرورة وتشتّتنا تتطلّب أن يكون لدينا قلوب أصدقاء الّتي قد تتحوّل بدونها الطاعة إلى سخرية. فالصداقة والطاعة في الرهبنة تسيران معاً وتتساندان.
بتعبير آخر، صداقة "الأصدقاء في الرب" ليست غاية في حدّ ذاتها.
· فهي تشهد لما خلقه الله فينا، للقاب الّذي شكّلنا وما سمح به بيننا. نحن نعرف القوّة الرسوليّة للشهادة الّتي أدّاها يسوعيّون ينسبون أنفسهم لبعضهم بعضاً في حياتهم. إنّها طريقة في العمل ... بينما التحسّس الّذي نشعر به يضعف الشهادة الّتي نشهد بها، والصفة الفردانيّة لمهمّة منجزة قد لا تقود إلاّ إلى الذات.
· إنّها تهب قوّتها لجسد الرهبنة وتجعله جسداً إنجيليّاً تحييه الرغبة في "الشراكة بيننا لجني ثمار أكثر" (تصريح 1539). إنّها تُظهِرُ أنّ الصداقة بين أشخاصٍ شديديّ الاختلاف ليست وهماً ... وأنّ الانفتاح الجذريّ على الذات وعلى الآخر يستطيع أن يقود إلى إنسانيّةٍ متصالحة.
2-3 الصداقة بيننا مسؤوليّة.
نحن مسؤولون بعضنا عن بعض تجاه الدعوة الّتي دُعينا بها، الحياة الّتي نتقاسمها، الرسالة الّتي ميّزناها، المهام الّتي نتسلّمها، وعلينا أن نمارس هذه المسؤوليّة.
- علينا أن نمارسها ونحن عارفين كيف نندهش للآخر ونجروء، بطريقةٍ أو بأخرى، على أن نشير للآخر إلى الهبات والمهارات والميزات الّتي لديه. فالآخر بحاجةٍ إلى نظرتي وكلمتي ليجتاز المِحَن والشكوك والمخاوف وعدم الثقة الّتي تجعله في بعض الأحيان مهزوزاً ويمكنها أن تفقده ثقته بنفسه.
- أن نمارسها كسهَرٍ: فنحن حرّاسٌ لأصدقائنا نوعاً ما. علينا أن نكتشف بحيطتنا وانتباهنا متى يحتاج رفاقنا إلينا، وأن نكون حاضرين حين يجتازون محنةً، أو فقط لأنّ حِملَ اليومِ كان ثقيلاً، فنحن "لا نعرف أبداً ثِقَلَ النيرِ الّذي لا نحمله".
- أن نمارسها بألاّ نحرم أبداً أحد رفاقنا من الرحمة الّتي نحن مسؤولون فيها. فقيمة الكائن وقيمة المحبّة تظهران غالباً في القدرة على طلب المسامحة. فالصداقة بيننا تولد وتنمو بالتناسب مع قدرتنا على طلب الصفح وعلى غفراننا.
في الختام، أودّ التعبير عن أمنيةٍ ثلاثيّة:
لنعرف كيف نرفع آيات الشكر لأجل مَن نعيش معهم الصداقة من بين رفاقنا. الأصدقاء هبة، وعيش الصداقة نعمة. والصداقة تغيّر القلوب. فبالصداقة نتفادى خطر تحجّر القلب.
لنجروء على رفع آيات الشكر لأجل جميع رفاقنا، الّذين هنا والّذين في كلّ إقليم من أقاليمنا، ولنجروء على الصلاة كي تتشدّد دوماَ الروابط بيننا، روابط الرفاق، وتتعمّق، كي تتّسع الشراكة بيننا وتتقوّى، ولكي تنمو الروابط بين أقاليمنا، ولكي تلبّي الرهبنة ما يريدها أن تكونه.
فلنؤمن في آخر الأمر بالصداقة وبقوّتها وعظمتها وجمالها، ولنستعدّ لنعيشها اليوم كما عيشَت بين الرفاق الأوّلين. فقد كانت مؤسِّسَة لهم. وهي كذلك لنا اليوم.
فرنسوا كزافييه ديمورتييه اليسوعي
شاتلار، لقاء الدارسين، 6 آذار (مارس) 2005