الاحتفال بالسنة اليوبيليّة:

القدّيسيْن إغناطيوس دي لويولا وفرنسيس كسفاريوس والطوباويّ بيار فافر

 

إلى كِبار الرؤساء

مقدّمة

في بدء سنة الربّ هذه 2005، أقدّم تمنياتي وصلواتي لكم ولجميع يسوعيّي إقليمكم أو منطقتكم. إنّ إحدى مهامّ هذه السنة الجديدة هي الاستعداد معاً للسنة اليوبيليّة التي تبدأ في 3 كانون الأوّل / ديسمبر 2005.

في 7 نيسان / أبريل 1506، شهدت أرضنا ولادة فرنسيس دي جاسّو في جافييه من منطقة نافارا، كما شهدت السنة عينها ولادة بيار فافر في 13 نيسان / أبريل في فيلاريه من منطقة السافوا، وبعد خمسين عاماً شهدت السماء ولادة إغناطيوس دي لويولا في 31 تمّوز / يوليو 1556 في روما.

تدعونا هذه السنة اليوبيليّة إلى الـتحقُّق من أمانتنا على دعوة الربّ وإلى إثرائها، تلك الدعوة التي ميّزها الرفاق الأوّلون واتّبعوها بطرق خلاّقة ما زالت تتحدّانا حتّى اليوم، نحن رفاق الألفيّة الثالثة.

باشرت بعض الأقاليم والمناطق بأخذ مبادرات للاحتفال بهذا الحدث التاريخيّ. وإنّي، إذ أُشجّع الجميع في الرهبانية على القيام بالمِثل، أريد، في هذه الرسالة، أن أركّز على بعض السمات الخاصّة بتلك الروحانيّة المُميَّزة التي ألهمت رفاق يسوع الثلاثة هؤلاء، والتي ما زالت اليوم تتحدّى جسم الرهبانيّة الرسوليّ.

القدّيس إغناطيوس: "الجهاد في سبيل الله" (البراءة البابويّة: "المُجاهدون في الكنيسة" - 27/9/1540)

إنّ دافع إغناطيوس ورفاقه الأوّلين هذا وارد في جميع الوثائق التأسيسيّة. ولكن، بالرغم من أنّ فكرة "الجهاد في سبيل الله" تسيطر على القوانين التأسيسيّة، إلاّ أنّ عبارة "الحرب لله" لم تعُد واردة، لأنّ إغناطيوس انتقل من عبارة المغامرة الحربيّة التي استعملها في "الرياضات الروحيّة" إلى عبارة العمل الدؤوب في كرم الربّ. وعوضاً عن أن يستهدف انتصاراً، أمل إغناطيوس أن " يُثمر ثمراً ". لكنّ هذا التغيير في التعبير لم يغيّر شيئاُ من ولعه بخدمة الربّ وحده، من خلال التأمّل والعمل، إذ كوّن جسماً في سبيل "خدمة الاسم الإلهيّ خدمة أوفر وتسبيحاً أكبر وتمجيداً أعظم". وحتّى يصبح الربّ وحده المخدوم الأوّل في كلّ شيء، ولا سيّما في هذا الولع، رغب إغناطيوس في "أن تتفضّل العزّة الإلهيّة فتخدمها هذه الرهبانيّةُ الصغيرة جدًّا".

في تلك الرؤية الرسوليّة، لا يكفي المحاربة من أجل الربّ أو العمل من أجل الربّ، بل يجب، في سبيل أن يكون الربّ أوّل من يُخدَم حقًّا، أن نضع هذا الجهاد بين يديه تعالى،  لأنّه هو وحده "كفيل بحفظ رهبانيّة يسوع الصغيرة جدًّا هذه، وبتدبيرها وتثبيت خطاها في خدمته المقدّسة،  وقد تنازل فأنشأها" (ق ت 134 ).

وعلينا أن "نعتبر كيف أنّ الله يعمل جاهداً ويسعى لأجلنا " (ر ر 236). فأراد إغناطيوس أن يندمج في مشروع عمل الله، وأن يتخلّى عن كلّ سعي أو خيار أو تفضيل لا يكون واضحاً، في نظر الرهبانيّة، بمثابة مبادرة من الله الذي أراد أن تخدمه الرهبانيّة.

واليوم، أكثر من أي وقت مضى من تاريخ الرهبانيّة اليسوعيّة العريق، لا تستطيع أن تعيش  رؤية إغناطيوس التصوّفيّة هذه، إلاّ إذا كانت تشكّل جسماً رسوليًّا يُصلّي (ق ت 424)  صلاة في وسط الحياة العمليّة: "إنّ مُهمّة رئيس المدرسة أن يحملها كلّها على أكتافه في صلاته ورغباته المقدّسة " (ق ق 424).

إنّ الله يُخدم أوّلاً فعلاً، إذا ما خصّصنا له في حياتنا الرسوليّة وقتاً ومساحة، لأنّنا نستطيع، في لحظات الصلاة هذه، أن نعترف بأنّه هو من يجعلنا نثمر ثمراً،  وأن ننتظر منه المبادرات الرسوليّة في خدمة كرمه. إنّ الله يُخدم أوّلاً فعلاً، عندما يريد جسم الرهبانيّة الرسوليّ  أن يُلمس قلبُه، وذلك من خلال التمييز في الصلاة، لكي يكون اتّحاده بالله ومخطّطات عمله اتّحاد إرادتين اتّحاداً مُحبًّا. يذكّرنا إغناطيوس بأنّنا، في سبيل "الاندفاع إلى أجلِّ خدمة لله " (ق ت 281)، يجب علينا أن نعترف بأن "رهبانيّتنا لم تنشأ بفضل الوسائل البشريّة، فلا تستطيع أن تستمرّ وتنمو بواسطتها، بل بفائق قدرة المسيح إلهنا وربّنا " (ق ت 812).

القدّيس فرنسيس كَسَفاريوس: " نوِّروا بفضل نور المسيح ربّنا "

إنّ فرنسيس، رجل العمل الإرساليّ العارم، الذي لم يتوان قطّ في إعلان البشرى بصوت جهور، لم يزل يتحدّانا. إنّ روحانيّته إغناطيّة في أعماقها، حتّى إنّنا نستطيع أن نعتبر مراسلته شرحاً لـ"الرياضات الروحيّة". و نجد بوجه خاصّ أنّه يُحيي "التأمّل في رايتين"، ذلك بأنّه يُعَدّ من بين الرسل الذين أرسلهم المسيح في العالم كلّه "لمساعدة جميع الناس"، ولنشر "تعليمه المقدّس" (ر ر 145-146). إنّ العبارة "لمجد الله" (ق ت 765) هي الغاية التي تسعى وراءها الرهبانيّة اليسوعيّة. ولقد حمل فرنسيس البشرى على وجه الأرض كي يساعد البشر الذين لم يعودوا يعكسون صورة الله وجُرِّدوا من إنسانيّتهم وغرقوا في الشقاء (رسالة في 18/3/1541). ويجب مساعدة الآخرين في تخطّي جهلهم، "لأنّ الذي يجهل الله ويسوع المسيح، ما بوسعه أن يعرفه؟ " (22/6/1549).

لشرح هذه المساعدة التي تعرض البشرى من دون أن تفرضها، كثيراً ما كان فرنسيس يلجأ إلى صورة الثمر: إنّ التبشير يعني أن نُثمر في النفوس (راجع تعليماته إلى الأب غاسْبار: 6-14/4/1552). لقد وجد فرنسيس أنّ رفاقه "لا ينفكّون يحرثون النفوس، لكي ينتشلوها من الخطيئة و يدفعوها إلى خدمة الله"، وهم "يثمرون" ثمراً وافراً (20/6/1549). إنّ عبارة الثمر  تعبّر عن مجّانيّة التبشير وعن دور الله ومحبّته في النموّ. وكما كان الأمر في حياة الربّ نفسه، لا تنحصر هذه المساعدة في الكلام، بل تشمل الأمور التربويّة والاجتماعيّة، والرعويّة والجماعيّة. ولقد أيقن فرنسيس، قبل كلّ شيء، كيف يُحيط نفسه في مساعدة النفوس بأصدقاء ومُدافعين، ومُحسنين ومُعاونين، ولا سيّما حيثما عدد الرفاق اليسوعيّين لم يزل بعدُ ضئيلاً.

ولكنّ ما يزيدنا حماسة في هذا التبشيرالذي قام به فرنسيس، هو ضرورة الإسراع في حمل البشرى التي تملّكتْه،  في حين أنّها تدعنا خاملين.  إنّ واجب احترام ضمائر الناس وثقافتهم، ومتطلّبات الحوار ونموّ الشعوب، وتحدّيات التعدّديّة الدينيّة واللامبالاة الدينيّة،  عندما نُبشِّر، عليه أن يدفعنا إلى أن نشارك فرنسيس كسفاريوس في ضرورة الإسراع التي تملّكته، عوضاً عن الاستسلام أمام الأمر الواقع: "نضع رجاءنا في الله ربّنا لنقدر أن نثمر ثمراً وافراً " (28/10/1542). تلك أفضل خدمة نستطيع أن نؤدّيها، مساهمةً منّا في مستقبل عالمنا، لأنّ الإرسال يقتضي الرغبة والعمل حتّى تصل البشرى، وهي الربّ، إلى البشريّة جمعاء فتشكّلها، هي التي تنتظره، هو الحقّ والحياة.

الطوباويّ بيار فافر: "نتوّسل إلى الروح القدس كي يروّض جميع الأرواح التي تسكن فينا " (الذكريات 13/5/1543)

لقد وصف فافر نفسه في وسط أوّل رعيل من الرهبانيّة بهذه الطريقة: "كنتُ جدّ حزين ومفجع عندما لاحظتُ أنّني لا أعمل شيئاً عظيم الشأن، وقد توصّلتُ إلى الاعتقاد أنّني، من بين مُعاصريّ، أقلّهم نجاحاً " (3/4/1545).

بالفعل، إذ لم يكن موهوباً للرئاسة مِثل إغناطيوس، ولا مندفعاً للأعمال العظيمة مِثل فرنسيس، فقد تكرّس لمرافقة الكثيرين من الناس مرافقة روحيّة في بحثهم عن الله، أقلّه من خلال ثلاث خدمات: الاعترافات والأحاديث والرياضات. كان يعي خطورة "القيام بأمور عظيمة بطريقة مُخذلة "، في حال لم يكن الشخص "المُولَع بمجد الله" غير متيقّظ، بنعمة الروح القدس، "إلى مصالح الله وإن كانت صغيرة " (26/10/1542)، مثلاً عند مرافقة الآخر مرافقة شخصيّة في الطريق المؤدّية إلى الله. ولكنّ فافر استطاع، من خلال تلك الخدمة التي فضّلها، القول بأنّ الروح المعزّي يحبّ أحيانا أن يضيف من ذاته على أصغر الوقائع والأعمال: "كلّما اتّحدنا بالروح، أفاض الروح بركته التي تنسكب على تلك الأعمال المتواضعة، ذلك بأنّه مصدرها وقُدوتها" (3/4/1545).

تظلّ خدمات "الاهتمام بالأشخاص" في الرهبانيّة اليسوعيّة تحدّياً وضرورة في داخل المؤسّسات التي لا بدّ منها والتي تنمو في مجالي التربية والتنشئة، ذلك بأنّ حتّى المتغيّرات الاجتماعيّة الضروريّة تتطلّب اهتداء القلوب التي يمكنها أن تضع حدًّا للبؤس في العالم، غير أنّها في الواقع لا تريد ذلك. وفي هذا الشأن، بإمكان فافر أن يكون مُرشدنا، وقد دفعه الروح القدس إلى الرغبة والرجاء أن يتمّم خدمة المسيح المعزّي. لقد أراد أن يكون "المُعزّي والمُنجّي والشافي والمُحرّر والمُغْني والمُقوّي"، لكي يحمل للناس "لا المواد الروحيّة فحسب، بل الجرأة والرجاء اللذين يسمح الله بهما بشكل محسوس، فضلاً عن كلّ ما باستطاعة المحبّة أن تفعله لأيّ نفس وأيّ جسد من إخوتنا " (26/10/1542).

خاتمة

هذه بضعة نواحي من روحانيّة رفاق يسوع الأوّلين الذين ما زالوا حتّى اليوم يمثّلون تحدّيات لجسم الرهبانيّة اليسوعيّة الرسوليّ: أن يكون الربّ فعلاً ووجوديًّا أوّل من نخدم في طريقة عيش دعوتنا كلّها، وأن تظلّ رهبانيّتنا، على غرار ربّها، واعيةً ضرورةَ الإسراع في رسالتها:"ارفعوا عيونكم وانظروا إلى الحقول، تروها قد ابيضّت وحان الحصاد" (يو4/35).

لندع الروح يمتلكنا ليعيش كلّ واحد منّا خدمة التعزية التي يقوم بها الربّ القائم، بالطريقة التي اعتاد بها الأصدقاء أن يعزّوا بعضهم بعضاً (ر ر 224).

في تلك النقاط المختلفة، علينا أن ننتهز فرصة السنة اليوبيليّة لنفحص طريقة عيشنا، ونتّخذ الوسائل التي تسمح لنا بأن نعيش بوجه أفضل الموهبة التي حصلنا عليها من مؤسّسينا: في صلاتنا الرسوليّة التي تُغذّيها الإفخارستيّا، وفي غيرتنا الرسوليّة، وفي خدمة مساعدتنا الأشخاص روحيًّا.

على الأقاليم والمناطق أن لا تتردد في إبراز أوجه أخرى أكثر ملاءمة وواقعها الرسوليّ،  وأن تقوم جميعها بالمشاركة في التحقّق والتكثيف في أمانتنا على الدعوة التي تلقّاها كلّ من إغناطيوس وفرنسيس وبيار.

وإنّي أكون شاكراً لكم إذا ما أرسلتم إليّ مشاريعكم ومبادراتكم للاحتفال برفاق يسوع الثلاثة هؤلاء، كي أستطيع أن أشارك فيها أقاليم ومناطق أخرى قد تستلهمها.

وإذ أقدّم لكم تمنّياتي وصلواتي لأجل سنة جديدة مقدّسة ومُثمرة، أؤكد لكم فائق إخلاصي في الربّ.

بيتر- هانْس كولفنباخ اليسوعيّ
الرئيس العامّ
روما،  في 6 كانون الأوّل / يناير 2005
عيد الظهور الإلهيّ

Collège Notre-Dame de Jamhour, LIBAN
Bureau de Communication et de Publication © 1994-2008