شهداء يسوعيّون في خدمة المشرق العربي 1975-1989
[عودة الى صفحة شهداء يسوعيّون في خدمة المشرق العربي 1975-1989]
"إذهبوا في العالَم كلِّه، وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين" ( إنجيل مرقس ، 16: 15). لقد أدرك مؤسِّس الرهبانيّة اليسوعيّة أمرَ المسيح هذا وعبَّر عنه في القوانين التي سنّها لرهبانه بقوله: «إنّ نيّة رهبانيّتنا، عندما نذرت الخضوع له (أي لقداسة البابا) خضوعَها لنائب المسيح الأعظم، من دون الإدلاء بأيّ اعتذار، كانت أن تُرسِل رهبانًا إلى بلاد المؤمنين أو غير المؤمنين، حيثما ترى فائدة، لمجد الله الأعظم ولخير النفوس الأوفر. فرهبانيّتنا لم تقصد مكانًا معيَّنًا، بل الانتشار في العالم كلّه إلى شتّى المناطق والبلدان» .
هذه الدعوة إلى الخدمة في «العالم كلّه» تَجاوب معها الأب لويس دوما على نحوٍ فريد، فانتقل من مغارب الأرض إلى مشارقها، حتّى استقرَّ به المُقام في لبنان، ثمّ المماتُ فيه شهيدَ الواجب.
وُلد لويس في مدينة پُواتِيِيه (Poitiers) بوسط فرنسا، وانتمى إلى الرهبنة اليسوعيّة العامَ 1918، فتابع تنشئته الروحيّة والعلميّة طوال تسع عشرة سنة متعمِّقًا بخاصّة في الرياضيّات والفيزياء، متمرِّسًا بعدَّة فنون عمليّة وصناعات كالموسيقى والنجارة والتصوير الشمسيّ. وتعرَّف إلى الشرق الأدنى لمّا درّس الفيزياء مدَّة سنتَــيْن في ثانويّة اليسوعيّين ببيروت بين 1926 و1928.
بعد أن اجتاز مرحلة التنشئة الطويلة، أُرسل إلى الصين حيث عُيِّن مديرًا للمَرْصَدَين الفلكيَّين اللذين كان اليسوعيّون يتولَّون شؤونهما في زي كا؟ِيه (Zi-ka-wei) وزُوسِيه (Zo-cé) ، ثمّ عميدًا لكلّيّة الهندسة في جامعة «الفَجْر» (L’Aurore) اليسوعيّة، فرئيسًا للجامعة من 1946 إلى 1950. وإلى جانب نشاطه الإداريّ وأبحاثه العلميّة، كان مرشدًا روحيًّا لعدد من الرهبانيّات لِما كان يتمتّع به من حكمةٍ وخبرة في مرافقة النفوس.
ولمّا أحكم الشيوعيّون سيطرتهم على البلاد في منتصف القرن العشرين، استولوا على جامعة «الفجر»، وبعد سنتين طردوا اليسوعيّين من الصين. إلّا أنّ «مصائبَ قومٍ عند قوم فوائدُ»، فاستعان يسوعيّو جامعة القدّيس يوسف في بيروت بإخوانهم المطرودين من الصين، وعُيِّن الأب دوما في جامعته الجديدة نزولًا عند رغبته، وثمّة درّس الفيزياء في كلّيّة الهندسة أوّلًا (1952-1954) ثمّ، وحتّى مماته، في كلّيّة الطبّ البشريّ، بالإضافة إلى تولّيه إدارة كلّيّة طبّ الأسنان التي جدّد بناءَها وأعاد تنظيمها (1959-1969). ومكّنه تضلُّعه من العلوم بتشعُّباتها من أن يرافق عددًا كبيرًا من معدِّي أطاريح الدكتوراه الذين قدروا دومًا كفايته ونصائحه وتفانيه في سبيل خدمتهم.
أين وَجد الأب دوما القدرة على الاضطلاع بجميع هذه الأعمال، وعلى هذا النحو من التميّز؟ الجواب هو: في حياته الروحيّة العميقة. فعلى الرغم من مظهره الخارجيّ القاسي وقلَّة استرساله في الكلام، كان قلبه يقطر محبَّةً ورغبةً في الخدمة والعطاء. وإنّ روح الخدمة هذه هي التي دفعته، لمّا اندلعت الحرب اللبنانيَّة، إلى الذهاب كلَّ صباح رغم الأخطار، لإقامة القدّاس في ديرٍ للراهبات قريبٍ من مقام سكنه في كلّيّة الطبّ، إلى أن أطلق عليه النار أحد القنّاصة المنتمين إلى حزبٍ ملحد، من دون أن تساوره الرأفة برجل الدين هذا العجوز المتّكئ على عصاه، فمات صريعًا في وَسَط الشارع. وكان ذلك في صباح 25 تشرين الأوّل/أكتوبر 1975.