شهداء يسوعيّون في خدمة المشرق العربي 1975-1989
[عودة الى صفحة شهداء يسوعيّون في خدمة المشرق العربي 1975-1989]

بعد أن درس نقولا كلويترس العلوم التجاريّة ثمَّ الفنون التشكيليّة، مارس تدريس الرسم إلى أن شعر بالدعوة الرهبانيّة، فانتمى إلى الرهبنة اليسوعيّة في الخامسة والعشرين بهولّندا موطنه. وسرعان ما طلب أن يُرسل إلى لبنان فاستُجيبت رغبته العامَ 1966، وأكمل ثمّة مرحلة الابتداء، وبعدها درس العربيّة (1966-1968) والعلوم الاجتماعيّة في بيروت (1968-1969) فالعلوم الفلسفيّة واللاهوتيّة في لبنان وفرنسا، ورُسم كاهنًا في أمستردام العامَ 1973.
بُعَيد عودته إلى لبنان سنة 1974 وتعيينه في دير تعنايل بسهل البقاع لخدمة القرى المارونيّة الفقيرة النائية شمالًا، والمعزولة في منطقةٍ ذات أغلبيّة غير مسيحيّة، اندلعت الحرب التي سرعان ما انطبعت بالطابع الطائفيّ. إلّا أنّ الأحداث الدمويّة هذه لم تثبّط عزيمة الكاهن الشابّ الغيور، فأخذ، بموافقة رؤسائه، ينطلق من قاعدته في دير تعنايل، حيث يعود يومًا في الأسبوع، متنقّلًا بين عدّة قرى قريبة من بلدة دير الأحمر، منها «بشوات»، حيث كنيسة السيّدة العذراء العجائبيّة وحيث أبرز نقولا نذوره الأخيرة الاحتفاليّة، العام 1977، تعبيرًا عن تأصُّله في تلك الأرض الفقيرة لخدمة المحرومين. ومن القرى واحدة جعلها قاعدة ثانية لتحرّكاته، هي ضيعة «برقا»، فكثَّف فيها نشاطه لتكون أشبه بالنموذج لسائر البلدات. وتعاون مع الأهلين بعد أن اكتسب ثقتهم، ورمَّم معهم الكنيسة وبنى بيتًا للكاهن ومدرسة وديرًا حلَّت فيه، أواخرَ العام 1984، جماعة من راهبات القلبين الأقدسين، وألحقه بعد قليل بمستوصف. وكان يحصل من موطنه هولّندا على مساعدات ماليّة مكَّنته من القيام بأعمالٍ لإصلاح الأراضي وتنشيط الزراعة، وهمُّه في جميع أعماله أن يرفع معنويّات هؤلاء الناس الطيّبين المهمَّشين والمعزولين، وتثبيت إيمانهم وتأصيلهم، بالرغم من الأخطار المحدقة بهم، في أرضهم، أرض التلاقي والعيش المشترك بين جميع الطوائف. ولعلَّ هذا النجاح الذي حقّقه نقولا في رسالته هو ما أثار عليه نقمة الحاقدين، المتضايقين من حيويّةٍ أعادها إلى بلداتٍ لم يريدوا لها الحياة إلّا ذليلة. ففي مساء 13 آذار/مارس 1985، بعد أن أقام القدّاس عند راهبات مستشفى بلدة الهرمل، عاد أدراجه إلى برقا حيث كان الأهلون بانتظاره في صباح اليوم التالي. ولكنّه لم يصل، وانقطعت أخباره، فنشط رفاقه الرهبان في تعنايل والراهبات والقوى «الأمنيّة» في المنطقة بحثًا عنه، إلى أن لاحظ أحد الرعيان في الجرد سربًا من الغربان يحوم فوق هوّة عميقة، فخامرته الشكوك وأخبر المسؤولين، فتوصّلوا بعد جهود مضنية إلى بلوغ القعر السحيق وانتشلوا جثّته، وقد مضى سبعة عشر يومًا على اختفائه. وكان نقولا مقتولًا أشنع القتل، مصابًا بطلقين ناريّين، مشنوقًا، و«مُخَوْزَقًا»، ما يشير إلى شدَّة الحقد المتملِّك بقاتليه. وعُرِفَ بعد ذلك أنّه قاوم خاطفيه ببسالة، إذ كان قويّ البنية، متدرِّبًا على فنون الدفاع عن النفس لمّا قام بخدمته العسكريّة في عداد المظلِّيّين بهولّندا. ووُجدت سيّارته بعد بضعة أيّام وقد كُتب عليها هذه العبارة: «قوّات الثأر»!
تمّت مراسم الدفن في دير تعنايل يوم 3 نيسان/أبريل، وهو الأربعاء من أسبوع الآلام العظيم، في جوّ من التأثّر العارم والتقوى العميقة، ولم تُقرع الأجراس حزنًا، بل فرحًا لأنّ جميع مَن عرفوا نقولا أيقنوا أنّهم ودَّعوا يومذاك شهيدًا بذل نفسه في سبيل إيمانه ورعيّته، وهم لا يزالون حتّى اليوم متمسّكين بهذا الاعتقاد. وكان هو نفسه قد كثَّف في أيّام حياته الأخيرة صلاته، وسلَّم أمره لله بثقة بنويّة، استعدادًا لتقبّل الصعاب وحتّى الاستشهاد، فكتب في ذلك الشأن، أسبوعَيْن قبل خطفه، ما تعريبه: «أعادني (يعني المسيح) إلى برقا... وكأنّي به يقول لي: الثمار أوشكت أن تينع... لا تضطرب للأحداث الخارقة والقاسية التي يمكن أن تحصل، كالخطف وما شابه. مَن كان معي أيَّدَتْه نعمةٌ خاصّة ليستطيع أن يتألّم في سبيلي ومعي. سأكون معه».