Billet de la quinzaine
Les autres billets de la quinzaine
28 février 2007
تقبِّلُ الأُمُّ طفلَها عدّة مرّات، ولا ترتوي. شفتاها تترجمان عاطفتها. فالقبلةُ ترجمةُ عاطفة الحبّ. ولو أنّ القبلة الماديةَ عبّرتْ، بالكامل، عن عاطفة الأُم المجرّدة، لما كانت هذه أشبعتْ وحيدها قبلاتٍ، بدون أن ترتوي! لذا، فالوسائلُ الماديّة، مهما برعت، تبقى عاجزةً عنْ ترجمة العواطف والمعاني المجرّدة، بالتمام.
من هنا، إنّ أجمل قبلَةٍ هي القبلة التي لم تُعطَ بعد، وأروع تحفة هي التحفةُ التي لم تُنجَز بعد. فنقْلُ الفكرة المجرّدة واقعًا، يُفقدُها الكثير من ماهيتها، إذ إنّ لغة الفكرة أو المفهوم، خطابُها مثالي، ولغة الواقع خطابُها ماديّ بحت.
والترجمة مِنْ لغة إلى لغة أخرى، التي هي نقْلٌ للفكرة إلى لسانٍ آخرَ، بأدوات مختلفة عن أدوات لغة النص، دونَها صعوباتٌ عديدةٌ ومستلزَمات أساسية.
من صعوباتها هي أن لا مرادفَ لكلمة، في كل لغات العالم. فما نسمّيه "مرادفًا" يمثّل جزءًا، أو وجهًا من وجوه الكلمة المنقولة، لا كلّها. إلى ذلكَ، يُخشى منَ النقل الحرفيّ للنصّ الأصليّ، ومن التقوقُع في قوالبه، نتيجةَ عدمِ قبضِ المترجم أو الناقل على ناصية اللغتَين.
فالمترجِمُ الحَقًّ هو الذي وعى عبقرية اللغتين وعْيًا عميقًا، وسبر أغوار تفاصيل الدلالة فيهما. يتملّى منَ النص، كما لو كان هو مؤلِّفُه. يقف على مفاصله ودقائقه، متفاعلاً معَ أبعاده، متخيّلا إياه بحلّته الجديدة المُترجَمة التي يتمناها أجملَ من الأصيلة. يتأمله متفاعلاً مع ذاته، دون التفكير في ترجمته.
وعلى الناقل أو المترجِم أن يتأثّر بعواملَ عدة. ينطلق من النص، كفكرة وأسلوب، ومؤلِّف، ومن ذاته المثقَّفَة الواعيةِ اللعبةَ الأدبيةَّ والمحرّكتِها.
ينطلق من النص كفكرةٍ يفهم مراميَها وأبعادها، ويرغب في نقلها إلى لغته الأم. ثم ينتقل إلى دراسة البُنْيَة والمؤشِّرات والدلالات والرموز والصوَر والبيان والبديع، فيستوفيها حقَّها فهمًا وتدقيقًا، ناهيك عمّا يأتيه النص منْ إيحاءات ترقَى بالترجمة إلى مستوى الأدب. فمِنَ النصوص ما يدعوك إلى أن تنقله بلغة أبلغَ من لغته الأصلية! ثم ينتقل المترجم إلى المؤلِّف. وهنا ينتفي الحياد، لا في موضوع المحتوى، بل في موضوع النقْل. فبقدر ما يقدّر الناقل شخصيةَ المؤلِّف، سلبًا أو إيجابًا، بقدر ذلك يُبْدِع في ترجمته.
... وتبدأ الولادة الجديدة. تأخذ قلمَك، تنفحُه بكل جميل وأصيل. تنطلق مِنْ فهْم الفكرة ومرامي مؤلِّفِها، واقفًا على مؤشِّرات الأسلوب وإيحاءاته، مُراعيًا عملية التقديم والتأخير والبيان والبديع في اللغة التي تنقل إليها، حريصًا على استعمال التعابير ذاتِ المدلول الضيّق، محافظًا، إلى أضيق حدّ، على فكرة الكاتب وقوالبه التأليفية، مطعّمًا إيّاها بتلاوينَ ذاتيةٍ فنية، حتى لَيُضحي النصُّ المُترجَمُ كنصٍّ تؤلفه بلغتك الشخصية.
و"للراسخين في العلم"، قد تتحكّم بلغة الناقل الإجابةُ على أسئلة ثلاثة، وهي: فكرةُ النص؟ أسلوب النص؟ المؤلف؟
لا يمكن للفكرة في النص أن تجعل الناقل يقف منها مُحايدًا، وإلآَّ، فلا مجال لأن يترجم. أمّا بنية النص وأسلوبه فلهما التحفيزُ الأكبر في الترجمة. أسلوبُ النص المشرِق يضع المترجِم في موقفين: الاستحسانِ والتحدّي. لذا، يجهد الناقلُ في أن تأتيَ ترجمتُه على المستوى نفسه للنص المترجَم، بلاغةً وبيانًا، إن لم نقلْ أفضل.
ولعلّ للمؤلِّف الأثرَ الكبير على ريشة الناقل، بالأخص، إنْ كان هناك قناعةٌ راسخة بكفاءة المؤلف، إلى حدّ الإعجاب، لدرجة أنّ الناقل لا يمكنه إلاّ أن يأتيَ بالروائع، تلبية لإعجاب المؤلّف به وخلْقِه عملا فنيًّا.
أنطوان بربر