صاحب الفخامة،
وجودكم معنا اليوم على رأس المصلّين، يضفي على هذا الاحتفال ما أضفاه عليه من مهابة، وجود أحد أسلافكم الكبار الأولين، الرئيس المرحوم الشيخ بشارة الخوري، يوم أرسى حجر الأساس في هذا المعهد التربوي الزاهر، لنصف قرن مضى. وهو في الوقت عينه دليل قاطع على تقديركم للتنشئة الدينيّة، و الأخلاقيّة، و الوطنيّة، و الانسانيّة، التي يؤمنها الآباء اليسوعيون في مدارسهم وجامعاتهم المنتشرة قى القارات الخمس، لمن يسعدهم الحظ في ارتيادها؛ وهي تنشئة أعرب عنها رئيسهم العام السابق الأب أرّوبه في مؤلّف له عنوانه "أناس من أجل الآخرين". قال غاية التنشئة، هي: تثقيف الناس... لا يفقهون محبة الله دون محبة الناس؛ محبّة فاعلة تكون أولى متطلباتها العدالة. هذه المحبّة، هي بعدُ، الضمانة الوحيدة بأن محبتنا للّله ليست مهزلة أو قناعا فريسياً يخفي أنانيتنا". وأضاف في مكان آخر من كتابه:"بقدر ما نكون قد وجّهنا وجودنا من أجل الآخرين، ومن أجل العدالة، تبقى المهارة المهنيّة، وأكتساب أهليّة جديدة للتغيير، أمراً إيجابيا".
رفع المتواضعين"
( لو 1: 52)
1- إنا نشكر لحضرة الأب سليم دكاش، اليسوعي، رئيس مدرسة الجمهور، ولمعاونيه دعوتهم إيانا لترؤس الاحتفال باليوبيل الذهبي لمدرستهم هذه، مدرسة سيّدة الجمهور، وللاشتراك معهم في الصلاة على أرواح المؤسسين ومن تعاقب، في مدى نصف قرن، على رئاسة هذه المدرسة من الآباء اليسوعيين الستة، الذين أصبح أربعة من بينهم لدى ربهم في دار الخلود. وقد أبوا إلا أن ترتاح عظامهم في تربة لبنان اللّينة عليهم، وعلى أمثالهم من أهل التقى والعلم، والصلاح والمعرفة. وهم في معظمهم فرنسيو الجنسية، لكنهم تبنوّا لبنان محبة به وبتراثه، شأن العديدين من بينهم. وقد تبنّاهم لبنان طوعا. وكان بعض من بينهم قدوة لنا في الحياة الكهنوتية، يوم كنا على مقاعد الدراسة، وكانوا أساتذة في المعهد الشرقي الذي كان تابعا لجامعة القديس يوسف.
وأنا، نسأل لهم حسن الجزاء، فيما نحتفل اليوم بذكرى الموتى المؤمنين ونرفع الصلوات لراحة نفوسهم، يقينا منا أن الصلات لا تزال قائمة بينا وبينهم، يساعدنا منهم من أصبحوا ينعمون برؤية وجه ربهم على سلوك الطريق المؤّدي إليه تعالى، ونساعد منهم على النجاة من العذاب، مَن لا يزالون يهتفون بنا قائلين مع أيوب الصديق:" ارحموني، ارحموني، أنتم يا أخلآئي، فإن يد الله قد مسّتني" [1] .
2- أراد المؤسسون أن يضعوا هذه المدرسة تحت حماية السيّدة العذراء مريم أمّ الله،الوضيعة التي جاهرت بأن الله: "نظر إلى تواضع أمته...فأنزل الأعزّاء عن الكراسي ورفع المتواضعين"، فأطلقوا عليها اسم سيّدة الجمهور. وشاءوا أن يربطوا بين فضائل هذه الأمّ الحنون، وما يتميّز به أسلوبهم التربوي من فرادة. فالعذراء هي مثال المربّية. وقد تميّزت بالإيمان برسالة ابنها، يسوع المسيح، لا بل كانت أول المؤمنات والمؤمنين به. فآمنت بمخطط الله الذي أنبأها به الملاك جبرائيل، يوم بشّرها بأن الله اختارها من بين النساء لتكون أمّا بتولا لابنه [2] .وجاهرت بإيمانها، عن معرفة ويقين، يوم أطلقت أنشودتها الشهيرة: "تعظّم نفسي الرب" [3] ، وتأمّلت في أحداث الخلاص، " فكانت تحفظ في قلبها جميع ما قاله ابنها، وما قيل فيه، من "كلمات" [4] . وتطوّعت لخدمة نسيبتها إليصابات، يوم كانت في أمسّ الحاجة إلى من يساعدها في وضعها غيرالمربح. وتوفّرت على خدمة طفلها، يوم ولدته "ولفّته بالقماطات ، ووضعته في مذود" [5] ، وكانت دائما إلى جانبه، حتى على "أقدام الصليب" [6] .
3- خمسون سنة مضت على قيام هذه المدرسة، وقد مرّ تحت سقفها مائة وخمسة من آباء الرهبانية اليسوعية، والأخوة، والأخوة الدارسين، فضلا عن أربع وعشرين راهبة وقفوا جميعا ذواتهم على رسالة التربية فيها. وعاشت هذه المدرسة ما عاشه اللبنانيون من أيام نعم وشؤم. فنَعِم المقيمون فيها بما تقدّمه لهم طبيعة لبنان من نقاء ماء، ورقّة هواء، وصفاء سماء، وقاسوا ما ينزله ظلم الناس للناس من نكبات وويلات، فأصابها القصف المجنون، خمس مرّات، إصابات مباشرة. وتهجّر ساكنوها ثلاث مرّات، لكن القيّمين عليها أعادوا بناءها، شأن العديد من اللبنانيين الذين كُتب عليهم أن يرمّموا بيوتهم ومنازلهم، فيما كان القصف لا يزال متواليا؛ وهذا ما أثار إعجاب المعجبين بعنادهم وتشبّثهم بأرضهم وتراثهم وثقتهم بوطنهم الصغير بمساحته، والكبير بما يختزن من تراثات وحضارات إنسانية، على مدى ستة آلاف سنة. وهذه هي مدرسة سيّدة الجمهور تطلّ اليوم من بعيد، على العاصمة،وعلى الجبل، مزهوّة على هذه التلّة، تحتضن من هم أمل الغد الموعود من أبنائنا، وهم "أكبادنا تجري على الأرض". وقد بلغ تعدادهم هذه السنة ما يقارب الثلاثة آلاف طالبِ.
4- ورسالة التربية معروفة لدى الآباء اليسوعيين وعنهم، وقد أتقنوها منذ مئات السنين، وفي مختلف البلدان شرقا وغربا. ولهم فيها نهج وأسلوب عصيّ على التقليد، منذ عهد مؤسسهم القديس اغناطيوس دي لويولا في أواسط القرن السادس عشر.وقد اتخذت هذه المدرسة شعارا لها ما تمرّست به العذراء مريم من فضائل، وأخصّها: الإيمان بالله، والمعرفة، والخدمة. والقلب الفارغ من إيمان، فارغ من رجاء، فهو يصير إلى بؤس وشقاء؛ والرأس المفتقر إلى علم ومعرفة، مفتقر إلى نور وهداية؛ ومن عاش منكفئا عن خدمة، عاش معزولا عن ربه والناس. وقد أضافت هذه المدرسة إلى هذه الفضائل ما مدّتها به الشرعة التربوية التي اختارتها، وهي:الثقافة الأدبية والعلمية، والاهتمام بالخير العام والحسّ الاجتماعي، وطابع المدرسة المسيحي. وهذا ما يكوّن لها هويّتها. ومن لا هوّية له، ظلّ مجهولا، منبوذا.
5- وإن ما تتميّز به هذه المدرسة تنمية روح التعاون بين طلابها وأوليائهم. فهم يؤلّفون جسدا واحدا كجسد المسيح السرّي الذي قال فيه بولس الرسول: " نحن الكثيرين، فإننا جسد واحد بالمسيح، وكل منّا عضو للآخر" [7] ، " إذا تألّم عضو، تألّم سائر الأعضاء، وإذا تمجّد عضو، تمجّد سائر الأعضاء" [8] . وقد عرف القيّمون على هذه المدرسة كيف ينشئون نوعا من التعاضد بين وأولياء طلابهم، بحيث يسارع الميسورون من بينهم إلى نجدة المعسورين، فأوجدوا تعريفتين للأقساط بحيث يؤمّن الأولون من بينهم قسطا لابنهم وقسطا مماثلا أو جزءا من هذا القسط لرفيق ابنهم ، هذا فضلا عن "شبكة تعاضدية تساعد على تغذية صندوق المنح المدرسية، وبذلك لا يترك المدرسة تلميذ واحد لأسباب مالية، على ما أوصى به الإرشاد الرسولي: "رجاء جديد للبنان" بقوله: "إن استقبال الكنيسة الكاثوليكية لشباب فقراء في مدارسها هو تقليد قديم. فأشّجع، يقول قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، الجماعات الكاثوليكية على تنمية تضامن حقيقي في ما بينها وبين الشباب الذين ترعاهم، كيلا يقطع أي شاب تحصيله لأسباب مادية أو مالية محض" [9] .
6- ولا تقتصر التربية على حشو الرأس بالعلم. وإن كان لا بدّ منه. فالعلم وحده لا يصنع من الرجال رجالا. فالتربية لا تستقيم إلا إذا هدفت إلى تقويم الإرادة لتسعى في سبيل الخير، ولا تكتمل إلا بتثقيف الضمير بالأخلاق، والقيم الدينية والإنسانية. قال الأب اروبه، رئيس الرهبانية اليسوعية السابق: "التربية على العدالة، يعني تربية أناس يعملون بفاعلية على التحويل والتغيير ...حتى إعادة النظر في البنى. وهذا يقتضي له نوع من التغيير يمكنّنا من تحليل الحالات الخاصة التي يجب تغييرها، ومن وضع خطة عمل تحقق عمليا أهداف التغيير والتحرير. ولنستشر الذين هم في جمعياتنا مهمّشون أكثر من سواهم.لأن المسحوقين ، في النهاية، هم الذين يجب أن يكونوا أهم عامل تغيير. ودور الذين هم في الساحة يقوم على مساندة الضغط الآتي من تحت، بضغط يأتي من فوق،على البنى التي هي في حاجة إلى تغيير". ويقول الأب كولفنبك، رئيس الرهبانية اليسوعية الحالي: " ماذا تبتغون من تربية الشباب؟ أفليس مساعدة كل شاب على أن يصبح حرّا تمام الحرّية؟ قادرا على اقتطاع مكانه بين البالغين، أمام الآخرين، وأمام الله، وأمام ذاته؟ أفليس أن يتعلّموا معرفة العدالة وممارستها ليصبح العالم متضامنا"؟ ويضيف:" لا نخدعّن أنفسنا: كم من تلامذتنا يأتون إلى مدارسنا سعيا وراء ما نقدّم لهم من تربية ممتازة، وثقافة تسمح لهم بنيل مركز جيّد، وبتضخيم عائداتهم". أهذا هو هدف التربية؟ جمع المال، وتكديس الثروات حتى على حساب الحق والعدل والضمير، والوطن ومن فيه من بائس وفقير؟ إن بولس الرسول بقول: "العلم ينفخ، ولكن المحبة تبني". [10]
7- إني إذ أجدد شكري على القيمين على هذه المدرسة، وتهنئتي إياهم بما أنجزوا طوال نصف قرن، أتوجّه إلى الشباب والشابات الذين لا يزالون على مقاعد الدراسة، ومن خلالهم إلى جميع من هم من أمثالهم في جميع أنحاء لبنان، لأقول لهم: وطنكم لبنان ينتظركم. وهو يعقد عليكم آمالا كبارا. لا تخيّبوا آماله. كونوا مواطنين يتقون الله، ويضحّون في سبيل وطنهم ليبقى مرفوع الراية، عالي الجبين، موفور الكرامة. ليست الأوطان أرضا وحجارة، سهولا وجبالا، وهادا وهضابا. الأوطان عمق تاريخ، و كثافة حضارة، وسعة ثقافة. الأوطان رجال ونساء لا يخشون النهوض بمسؤولياتهم، ولا يحنون هاماتهم إلا لله الذي به يؤمنون، وللحق الذي به يدينون، وللخير الذي له يعملون. وليس بين الأوطان وطنٌ كلبنان. ولا تنسوا أنشودة العذراء، وآمنوا إيمانها بأن الله "ينزل الأعزّاء عن الكراسي، ويرفع المتواضعين".
مدرسة سيّدة الجمهور 23-2-2003
[1] - أيوب 19: 21
[2] - لو 1: 26-37
[3] - لو : 46-56
[4] - لو 2: 51
[5] - لو 2 : 7
[6] - يو 19: 25
[7] - روم 12: 5
[8] - 1كور 12: 26
[9] -عد 107
[10] - 1كور 8: 1