فنّ القيادة

- نظرة إغناطيّة شرقيّة -

 

[Pour télécharger le document en entier, format Word : .doc 112kb, utilisez le bouton droit de la souris]

أوّلاً -  فنّ القيادة والروح الإغناطيّة

ثانياً - فنّ القيادة و روح الخدمة

ثالثاً -  فنّ القيادة و روح التنشيط

رابعاً -  فنّ القيادة و روح التجدُّد والإبداع

الخاتمة

 

ثانياً - فنّ القيادة و روح الخدمة

     يتّضح مفهوم الخدمة أو الخادم من منطلق يسوع نفسه في رواية يوحنّا: قبل غسل الأقدام  وقبل التقديس،  كان التلاميذ يتجادلون حول مَن هو الأكبر بينهم؟  فصرّح لهم يسوع أنّ السلطة خدمة.  فمَن له سلطة،  أيًّا كانت - في الأسرة أو المجتمع أو الكنيسة أو الوطن... -، يكون خادماً ولا متسلِّطاً. والخطر الحقيقيّ الذي يهدّد باستمرارالقائد هو التساُّط،  بخاصّة في مجتمعاتنا الشرقيّة. لن أحلِّل تلك القضيّة الفحشاء في حدّ ذاتها،  بل سأعرض ثلاثة مستويات شغلت بال إغناطيوس في حياته الشخصيّة،  ما جعله يعرضها في " تأمّل في رايتين "،  حيث قِيم المسيح من جهة وقِيم الشرّير من جهة أخرى،  وهي،  في ما نحن بصدده أي فنّ القيادة:  امتلاك الأشخاص،  والمجد الباطل،  والكبرياء.

     إنّ الخطر الأوّل الذي يهدّد كلّ قائد،  ولا سيّما القائد الشرقيّ،  هو الامتلاك،  وهو نزعة دفينة في قلب كلّ إنسان؛   لا شكّ أنّ إغناطيوس يقصد امتلاك المال فالتميُّز بالغِنى،  ولكنّي أطبِّق كلامه على امتلاك الأشخاص، معترفاً أنّ كلّ قائد مُهدَّد بأن يمتلك الأشخاص الذين هو مسؤولعنهم، مُستحوذاً على قلوبهم وأفكارهم، مستخدماً إيّاهم لمصلحته الشخصيّة،  جاعلاً إيّاهم في خدمته...، في حين أنّ القائد الحقيقيّ هو ذلك الذي يساعد الآخرين على أن يكونوا أشخاصاً أحراراً غير مُقيَّدينبه، ويُنمِّي فيهم مواهبهم ومَلَكاتهم، ويربّيهم على استقلاليّة الرأي والمشاعر والقرار...  إن كان القائد خادماً بتمام معنى الكلمة،  تخلّّى عن رغبته الواعية أو غير الواعية في امتلاك مَن هو مسؤول عنهم.

     والخطر الثاني يكمن في نزعة دفينة أخرى، وهي المجد الباطل،  تلك النزعة التي تجعل الإنسان،  ولا سيّما القائد،  يطمع  في الرئاسة والتمسّك بالسلطة،  وبالشهرة وحُسن السمعة،  وبالنجاح والمديح، وبالتفوّق على الآخرين والسيطرة عليهم...  وأمّا القائد الحقيقييّ،  فهو ذلك الذي يقبل نجاحه،  عندما يتعرّض له،  للمزيد من التضحية في سبيل خدمة الآخرين؛  كما أنّه يقبل فشله،  عندما يتعرّض له،  للمزيد من الإصلاح الذاتيّ والتقدّم في الخدمة. ولإغناطيوس قول مشهور في هذا الصدد،  قاصداً الرئيس الدينيّ،  ويجوز لنا أن نعمّمه على كلّ قائد:  "عليه أن يتعالى على حميع الأحداث،  فلا يستثيره النجاح ولا تحطِّمه الشدّة، بل يكون مستعدًّا،  إن اقتضى الأمر،  أن يتقبّل الموت لخير رهبانيّتا في خدمة يسوع السميح إلهنا وربّنا".  إنّ إغناطيوس يطبّق بالفعل كلمة يسوع الذي وصف الراعي الصالح الذي يبذل حياته في سبيل خرافه.  وعليه،  يمكننا القول إنّ القائد الحقيقيّ مستعدّ لتضحية نفسه إلى أقصى الحدود في سبيل مصلحة مَن هو مسؤول عنهم. ومن بين العلامات الحقيقيّة التي تثبت أنّه يقوم بالقيادة على أساس الخدمة،  " روحُه الاستعداديّة " – بحسب العبارة الإغناطيّة-  للتخلّي عن السلطة في صالح شخص آخر،  وإن كان هذا شخصاً أقلّ منه تميُّزاً،  ذلك بأنّ التجديد في القيادة هو للصالح العامّ والخاصّ:  لصالح المؤسّسة التي تتجدّد بتجدّد قادتها،  ولصالح الأشخاص حتّى لا يستبدّوا بسلطة القيادة.      

     وأمّا الخطر الثالث فهو تلك النزعة الدفينة في قلب كلّ إنسان،  ولا سيّما في مَن لهم سلطة على الآخرين،  وهي الكبرياء،  وهي بالذات الخطيئة التي وقع فيها آدم وحوّاء عندما أرادا أن يكونا كالآلهة،  أي أن يضعا أنفسهما مكان الله .  وفي القيادة تظهر هذه النزعة عندما يستبدّ القائد بالرأي من جهة وبالقرار من جهة أخرى،  ظانًّا أنّ الحقّ كلّه معه،  وله كلّ الحقّ في القيام بما يحلو له،  ويأخذ القرارات وحده،  وإن أخذ رأي الآخرين ففي معظم الأحيان بلا اقتناع بل للقيام بشكليّات حتّى يُرضيهم،  لا للاستماع الحقيقيّ إليهم وإلى رأيهم ليأخذه بعين الاعتبار بكلّ صدق وأمانة. وعلى نقيض ذلك، هناك ضرورة عدم الانفراد بالسلطة،  بل القيام بما يُسمّى بمبدإ ’التكليف‘ المبنيّ على الثقة – كما سنراه لاحقاً -،  ذلك بأنّ القائد يشارك الآخرين في المسؤوليّة ويحترم قيامهم بمسؤوليّتهم،  وإن أخطأوا في ممارستها يُصلحهم ولا يسحب منهم المسؤوليّة. 

     خلاصة القول أنّ القيادة خدمة تتّسم بالفقرالروحيّ لا بروح الامتلاك،  وبقبول الإهانات لا بالسعي وراء المجد الباطل،  وبالتواضع لا باكبرياء،  وكلّها قِيم إنجيليّة محض عاشها المسيح،  ولا سيّما عندما جرّبه الشرّير التجارب الثلاث عينها،  تجربة الامتلاك والمجد الباطل والكبرياء سواء في البرّيّة،  أو في أثناء قيامه بالخدمة. 

     إلى جانب سِمة القيادة كحبّ وخدمة - كما عرضتُها بحسب نظرة إغناطيّة في واقعنا الشرقيّ-  هناك سِمة أخرى للقيادة لا تقلّ أهمّيّة في عينيّ إغناطيوس وفي واقع شرقنا،  وهي "الخدمة الأكثر شُمولا ً"،  وهي هاجس إغناطيّ مبنيّ أساساً على حبّ الله لجميع البشر؛  وعليه فكلّما كانت الخدمة  شاملة،  اقتربت من قلب الله المنفتح على جميع البشر بلا استثناء؛  من هنا تلك العبارة الإغناطيّة المشهورة:  " كلّما كانت الخدمة شاملة، كانت إلهيّة ". ماذا يفيدنا ذلك في فنّ القيادة ولا سيّما ممارستنا الشرقيّة للقيادة؟

     يتميّز شرقنا بأنّه يولي أهمّيّة بالغة للانتماءات،  سواء أكانت عائليّة أم دينيّة أم طائفية أم كنسيّة أم اجتماعيّة أم اقتصاديّة أم سياسيّة أم وطنيّة... إنّ تلك الانتماءات سلاح ذو حدّين،  بمعنى أنّ الانتماء ضرورة إنسانيّة لا غُبار عليها، لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يعيش بدونه... و لكنّه في الوقت عينه خطر حقيقيّ،  لأنّه قد يصبح عائقاً حقيقيًّا للروح الشموليّّة  عندما لا ينفتح الشخص، ولا سيّما القائد،  على مَن لا ينتمي الانتماءات عينها: وتشاهد مجتمعاتنا الشرقيّة استجواب النار لهؤلاء المختلفين !... أضف إلى ذلك خطر عدم حبّ الآخرين المختلفين،  فتفضيل المُنتمين الانتماءات عينها على الآخرين،  وخدمة هؤلاء على حسابأولئك، والاهتمام بهم أكثر من الاهتمام بالآخرين...  فذلك القائد يتجنّب بالفعل منطق الشموليّة.  وهذا بالذات معروف في مجتمعاتنا الشرقيّة بالمحسوبيّات،  حيث الأفضليّة للأهل والأصدقاء والمنسجمين في الرأي...   وكلّنا يعرف المَثل العربيّ القائل: "أنا وأخي على ابن عمّي،  وأنا وابن عمّي على جاري، وأنا و... على...".  وإذا توجّب على القائد أن يكوّنمجموعة، فسيختار الذين يتفاهم معهم ويتبنّون مواقفه وينتمون انتماءاته الطبيعيّة والفكريّة والوجدانيّة...  تلك الروح مُنافية تماماً لمنطق حبّ الله الشامل،  كما أنّها تُفقر المجموعة من غِنى الاختلاف ومن ثراء التنوّع .  ولذلك يدعو إغناطيوس إلى " عدم الإنحياز " وهو يعني أنّ الشخص، بالرغم من تفضيله شيئاً على شيء آخر،  أو شخصاً على غيره – وهذا أمر طبيعيّ -،  إلاّ أنّ تفضيله ذلك لا يغلقه على ما أو مَن يفضّل، بل يجعله منفتحاً على الجميع ،  ويمنحه مسافة تجاه مَن يفضّلهم؛  فعدم الانحياز يعني في نهاية الأمر الحريّة الداخليّة.  وإذا استعنّا بعبارة إغناطيوس،  قلنا:  " كلّما كان الحبّ شاملاً، أصبح إلهيًّا ".

     أُضيف إلى ذلك سِمة ثالثة لفنّ القيادة بالمنظور الإغناطيّ،  وهي سمة " الاهتمام بالأشخاص " ( باللاتينيّة: Cura Personalis ، وبالفرنسيّة: Soin des Personnes ).  فإن تميَّز الحبُّ والخدمة الإغناطيّة بطابع الشموليّة،  فهما يتعلّقان بالأشخاص،  بكلّ شخص يقع تحت قيادةالقائد؛ والعبارة الإغناطيّة معروفة: " المحبّة البصيرة "،  أي المحبّة، والخدمة المترتّبة عليها، التي تولي أهمّيّة بالغة لظروف كلّ شخص على حدة، لأنّ الحبّ والخدمة ليسا " بالجُملة "،  بل كلّ شخص جدير بالاهتمام. وذلك هو الفرق الأساسيّ بين عالم السياسة وروح الإنجيل،  ذلك بأنّ السياسة تولي اهتمامها للجماهير،  في حين أنّ الإنجيل يولي الأشخاصَ بالغ الاهتمام،  مِثل الراعي الصالح الذي يترك التسعة والتسعين خروفاً بحثاً عن خروف واحد قد ضلّ طريقه.  ويؤكّد لنا ذلك مشهدُ الصليب حيث كان يسوع في موضع مخلِّص العالم بأجمعه،  ما لم يمنعه من أن يدخل في علاقة شخصيّة واهتمام شخصيّ  بلصّ اليمين: " اليوم تكون معي في الفردوس ".  هذا هو الإنجيل،  ذلك هو أسلوب القيادة الإغناطيّ. وبطبيعة الحال، قد لا يستطيع القائد أن يولي كلّ هتمامه لكلّ شخص،  ولكنّ القاعدة هي أن يسعى جهده كلّه لتحقيق ذلك.  ولذلك تُشجِّع الحركات الإغناطيّة تكوين مجموعات صغيرة، لكي يتسنّى للقائد أن يرعى الأشخاص إلى جانب رعايته المصلحة العامّة.

     ولقد عبّر أحد الروحانيّين اليسوعيّين عن مزج الروح الشموليّة والشخصيّة في قول أخذ رواجاً عظيماً على مدار الأجيال:  " أن يتّسع الإنسان في أكثر الأمور شموليّة،  وأن يحضر في أكثرها خصوصيّة،  فذلك أمر إلهيّ " ،  إذ إنّ الله وحده يحبّ حبًّا شاملاً خاصًّا،  من دون أن تُفقد الشموليّة الخصوصيّة،  ولا الخصوصيّة الشموليّة.  وتلك الدعوة موجّهة بوجه خاصّ إلى القائد،  إذ عليه أن يمزج بين روح الشموليّة والخصوصيّة،  فيحبّ الجميع ويخدمهم من دون أي يضحّي يالأشخاص،  ويحبّ كلّ شخص ويخدمه من دون أن يضحّي بالمصلحة العامّة.  علينا أنّ نعترف أنّ ذلك أمر جدّ صعب،  إلاّ أنّه غير مستحيل لأنّه بالفعل منطقالله، والإنسان مدعوّ إلى أن يجعل من منطق الله منطقه الشخصيّ،  خاصّة إن كان قائداً له مسؤوليّة أشخاص ومجموعة.

     بعد أن وضعتُ الأساس – علاقة فنّ القيادة بالروح الإغناطيّة وبروح الخدمة -  أَََصِل إلى النواحي العمليّة ولا سيّما روح التنشيط في الفقرة القادمة،  وروح التجدُّد والإبداع في الفقرة اللاحقة.

 

Collège Notre-Dame de Jamhour, LIBAN
Bureau de Communication et de Publication © 1994-2008